Site icon IMLebanon

سِرّ إنتقال الزعامات المسيحيّة إلى الشمال

في اللحظات المصيرية والصعبة تعود الشعوب إلى جذورها الأولى، مِن حيث خرجَت وبنَت مجدَها بعد عملية الانتشار. فمرّت بمراحل عدّة مِن الإخفاقات والنكسات والنجاحات، لكن ثبتَ في النهاية أنّها لا تندثِر لأنّ منطقَ التاريخ والجماعات البشَرية يَحفظ لها حقَّها في الوجود.

إحتضنَت جبالُ وأودية بشرّي وتنّورين وإهدن منذ القِدم الطائفةَ المارونية التي أسَّسَت كيانَها الأوّل متحَدّيةً قساوةَ الطبيعة وبطشَ السلاطين، وانتشرَ الموارنة في السواحل ووصَلوا إلى حدود فلسطين حيث أصَرَّ البطريرك الماروني الياس الحويّك (إبن بلدة حلتا البترونية) على أن يشملَ لبنانُ الكبير كلَّ المناطق المارونية، لذلك يضمّ الشريط الحدودي في الجنوب أغلبيةً مسيحيّة.

لا تخيفُ «داعش» أبناءَ الشمال المسيحيين، لكنّهم في المقابل لا يُنكِرون خطرَها، ويراهنون على الجيش لصَدّها إذا ما فكّرَت بدخول لبنان، وسيتحوّلون إلى مقاومين كما كانوا دائماً، يتصَدّون لها ولغَيرها اذا طلبَت الشرعية المساعدة.

توَحّدَت قضية مسيحيّي الشرق، ولم يعُد هناك مِن تقسيم، لكنّ اللعبة السياسية والصراع على الزعامة يبقى قائماً. فتاريخياً، عرَف الشمال المسيحي زعاماتٍ عدّة، لعلّ أبرزَها في زغرتا مع يوسف بك كرم الذي أصبحَ رمزاً تخَطّى دورَ الزعيم السياسي، وبعد الاستقلال كانت زعامة حميد فرنجية الأبرز، على رغم أنّه لم يستطِع مبارزةَ الرئيس كميل شمعون، في وقتٍ أطلِقَ على قضاء الكورة لقبَ كورة شارل مالك، نَظراً لدورِه الوطني والفكري.

أمّا بشرّي والبترون فكان حزب الكتائب الأقوى فيهما إضافةً إلى زعامة عائلة حرب وطوق، إلى أن وصَل سمير جعجع إلى رئاسة الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» وبدأت مرحلة جديدة من الزعامة المسيحية الشمالية واللبنانية.

ما يَحصل اليوم من تبَدّلٍ وانتقالٍ للسلطة داخلَ المجتمع المسيحي بَعد توَلّي النائب سامي الجميّل رئاسةَ حزب الكتائب، وتحضير رئيس تيّار «المردة» النائب سليمان فرنجية نَجله طوني ليترشّح إلى النيابة، والانتقال المرتقَب لرئاسة «التيار الوطني الحرّ» مِن العماد ميشال عون إلى وزير الخارجية جبران باسيل، إبن البترون، يطرَح سؤالاً عن مستقبل الساحة المسيحية ومدى نجاح عملية الانتقال، وعن سبب اتّجاه الزعامات المسيحية لأن تكونَ من الشمال.

قد يكون هذا الأمر وليدَ الصدفة، لأنّ زَعامة آل فرنجية موجودة أساساً، وبَلغَت أوجَها مع الرئيس سليمان فرنجية عام 1970، فيما سَطعَ نجمُ جعجع في الحرب اللبنانية، أمّا عامل القربى فلعبَ لعبتَه الإيجابية مع باسيل، لكنّ القاعدة الأساسية تبقى أن لا صُدفَ في السياسة وفرزِ الشعوب لقياداتها، إذ إنّ الظروف والأحداثَ تفرز الزعامات، نظراً لاحتياجات كلّ مرحلة، وفي زمنِ المواجهة يَخرج مِن المجتمع قائداً صلباً، وفي أيام التهدئة يكون الزعيم ديبلوماسياً مهادناً ومحاوراً.

لا يستطيع أيٌّ كان التخفيفَ مِن الخطر القائم، إذ إنّ المسيحيين يَخافون على دورهم في الحياة السياسيّة والتركيبة اللبنانية، أكثر مِن خوفِهم من «داعش»، لذلك، تتطلّب المرحلة مواجهةً وتشَدّداً في المطالب. فالشمال المسيحي شَكّلَ خزّاناً للمحاربين وللمقاومة اللبنانية ولأحزاب «القوات» و«الكتائب»، و«الأحرار»، و»المرَدة» (عندما كانوا جزءاً من الجبهة اللبنانية).

كذلك، يَغيب الخوف الديموغرافي عن الشمال لأنّ الولادات ما زالت مقبولة نظراً لبَقية المناطق المسيحية، كما أنّ العامل الجغرافي على رغم عمليات بيعِ الأراضي في زغرتا والكورة، يساعد المسيحيّين الذين يتحصّنون في الجبال، وقد ساهم قربُ هذه المناطق من الخطر وكثرةُ الكلام عن مشاريع مذهبية في طرابلس في شَدِّ الأنظار إليها.

لكنّ هناك مسائلَ تُطرَح على مستوى الزعامة الشمالية، خصوصاً أنّ هناك اختلافاً في النظرة السياسية بين «القوات» من جهة و«التيار الوطني الحر» و«المرَدة» من جهةٍ أخرى.

ففي حين ثبَّتت «القوات» وضعَها في الشمال وتنتشر بكثافةٍ لافتة في المناطق المسيحية الأخرى، لم يستطِع «المرَدة» إيجادَ حيثيةٍ في جبل لبنان، بينما هناك مآخذُ على باسيل بأنّه لم يستطِع إيجادَ قاعدةٍ مسيحية له في الشمال، بعدما أصبحَت «القوات» القوّة الأكبر في بشرّي والكورة والبترون، و«المرَدة» في زغرتا. وإذا لم يحصَل أيّ تحالفٍ مع «القوات»، ماذا ستكون ردّة الفعل في حال سقطَ زعيم «التيار» في انتخابات البترون، خصوصاً أنّ النائب بطرس حرب يتمتّع بحيثية مهمّة في المنطقة؟

قد يكون سابقاً لأوانه طرحُ موضوع الانتخابات النيابية، لكنّها مسألة حيوية بالنسبة إلى صورة باسيل و»التيار» في البترون والشمال، لذلك يراهن بعضُ العونيين على تسريع التفاهم مع «القوات» لضمانِ مستقبل باسيل السياسي على المستوى الوطني وداخلَ تيّاره، خصوصاً مع الخَطر القادم من تنّورين عليه. وفي هذا الوقت يكمِل جعجع بناءَ وتنظيمَ حزبِه ويتحَضَّر للحظةِ غَرقِ الجميع في صراعاتهم الداخلية، ليتحوّلَ عندها رئيس الحزب الأكثر انتشاراً وتنظيماً عند المسيحيّين، في زمنٍ يحتاجون فيه إلى هذا النوع من الأحزاب.

قد يكون خطر «داعش» وأخواتها داهماً على لبنان، لكن مَن يراقب تصرّفاتها يرى أنّ «داعش» تخاف مِن التماثيل والآثار، فتدمِّرها، وهذه التماثيل منحوتةٌ من الصخر، فكيف الحال إذا كانت ستواجِه جبالَ لبنان عموماً وجبالَ الشمال خصوصاً، المكوّنةَ مِن صخورٍ صلبةٍ لم يستطِع أحدٌ تحَدّيَها وتخَطّيَها، سوى الموارنة الذين نَحتوها وحوَّلوها أراضيَ زراعيّةً خضراء.