Site icon IMLebanon

مسلسل القبض على الإعلام: «المنار» بعد «الميادين»

«عرب سات» طَرَدَتْ «المنار» عن أقمارها. عاقبت «الميادين» وحجبتها. يضيق صدر المملكة بالكلمة. تقلقها الحرية. تفضّل الصمت وتحبّذ الإملاء. تكره المختلف وتطمئن للامتثال. تعاقب من يعصى وتُجزي من يطيع… هذا ليس جديداً. كل سلطة تكره الكلمة وترعبها الحرية. والمملكة النفطية، كغيرها من ممالك المال والعسكر والتيوقراطيات والديكتاتوريات، ترى أن الكلمة الحرة وباء سياسي، إذا انتشر دمَّر قلاع السلطة. التاريخ شاهد: حرب بلا هوادة بين أمراء الإملاء ورجال الإفتاء. دماء كثيرة سُفكت. أقلام عديدة كُسرت، إعلاميون نادرون اغتيلوا. امتلأت السجون بأتباع الحرية والكلمة. سجل السلطات العربية مع الصحافة والإعلام المختلف حافل بالاضطهاد. لا تشذّ المملكة عن سواها، سوى أن سيفها يطال من هم خارج حدود المملكة المصانة بكل ما يمنع الحرية والكلمة والضوء.

اليوم «المنار» وقبلها «الميادين»، وفي القائمة أسماء كثيرة. ليس مسموحاً المساس بالعزة الملكية. هي في مرتبة المقدس، كما كان الديكتاتور في مرتبة المُنزّه. في مثل هذا الحضور الطاغي للسلطة، يلعب القوي لعبة الإغراء، إن توفر المال، ولعبة الإقصاء، إن عزت الثروة. والمملكة صاحبة مال، والمال منتج أقوال، تسيج المملكة بالعصمة وتمنع إصبع الاتهام أن يرتفع، ولو مواربة.

المشكلة في زمننا هذا، أن الإعلام العابر للحدود، المنقول عبر الأقمار الصناعية، المبثوث في كل وسيلة اتصال حديثة، لا يمكن القبض عليه، وليس باستطاعة سلطة أن تمنع تسلله. ومع أن الإعلام العالمي في قبضة الطبقة العالمية المسيطرة، فإن هامش الاختلاف يأخذ حيزاً ضيقاً جداً ولا يوازى أبداً بالغزوات الإعلامية المتدفقة على مدار الثواني. والغريب أن هذه الطبقة المالية العملاقة، ومنها السعودية، تضيق ذرعاً بالإعلام المختلف، ولو كان بحجم نشرة أخبار يومية، أو «مانشيت» في صحيفة، أو عبارة في حديث تلفزيوني.

في مقالة لسيرج حليمي في «لو موند ديبلوماتيك» تفصيل للاعتداءات التي تمارسها «الطبقة المليارديرية» المالكة لوسائل الإعلام، على الكلمة الحرة، ولمحاولات حصارها للإعلام المختلف. برهن الإعلام الغربي على انحيازه السافر ضد اليونانيين. قاد حملة تهديد للشعب اليوناني، إذا أطاع حكومته المنتخبة ديموقراطياً. الإعلام الرسمي الرأسمالي هو الذي طوَّع اليونانيين، فألزمهم بالخوف وأرعبهم بنتائج الفصل والانفصال.

مَن يملك المال، يملك حق القول وحق الكلام وحق صياغة الحقائق، ولو كانت باطلة. من العوائق أمام نشوء ونمو إعلام مختلف، مؤسساتٌ دولية لا تعلو عليها سلطة: «الأسواق المالية، الشركات متعددة الجنسيات، البنك الدولي، البنوك المركزية، أصحاب الثروات العملاقة العابرة للأرقام، ذات التسلسل اللانهائي… هؤلاء، يضعون حدود الكلمة والمعرفة. كل ما يهدّد أرباحهم ومستقبل استثماراتهم، ليس ممنوعاً فقط، بل ومسموح طحنه. الطبقة المالية الرأسمالية المتحكمة لا يمكن أن تترك سلاح الحقيقة والمعرفة، بيد أصحاب المهنة الإعلاميين. هؤلاء قوتهم في كلمتهم ومواقفهم. أما محفظة الأموال الشرعية، فلا تكفي ثمن الحبر والورق والآلات، فكيف بإعلام كوكبي؟ القبض على الإعلام شرطٌ من شروط حراسة نظام النهب والاستغلال والتمييز العالمي.

في فرنسا ستة من أصل عشرة أثرياء، يملكون مجموعات عظمى من الصحف والمجلات والكابلات والشاشات والأقمار الصناعية. ملوك الإعلام، أمثال باتريك دراهي وروبرت مردوخ وبرنار أرتو وسواهم في القارات الخمس، يملكون 90 في المئة من وسائل الإعلام ودور الصحافة والنشر والإنتاج الموسيقي والسينمائي. أي 90 في المئة مما يدخل علينا في بيوتنا، فيصنعُنا على صورته ومثاله، كائنات استهلاكية، امتثالية، اتكالية ومهمّشة عن أي فعالية سياسية أو تنموية أو اجتماعية. يشهد على ذلك تراجع السياسة لدى الأجيال الجديدة ونمو العنف الأعمى. وهذا من نتائج القبول بما يُقال ويُنشر، أو من فظائع الرفض العنيف لما تسكبه وسائل الإعلام من ظلم.

الامبراطوريات الإعلامية المنتشرة والمسموعة والمتبوعة و «المقنعة» والمغرية، التي تجرف الوعي وتقيل العقل، تجعل الإنسان آلة استجابة لفعل الاستهلاك واستسهال الانسحاب. في مثل هذه الامبراطوريات المكتسحة، ماذا يبقى من مساحة للإعلام المختلف، أو الإعلام المضاد؟ إعلام قضايا الناس المحكومين والمظلومين والمضطهدين والمسحوقين؟ إعلام الضحايا، ضحايا العنف والبربرية والتكفير والطائفية؟ ضحايا الحروب في كل مكان عربي؟

يشبه الإعلام المختلف «صوتاً صارخاً في البرية». ولكنه صوت يخشى أن تكون له أصداء تردَّد في بيئات مختلفة. لذا، لا ينجو هذا الإعلام من عين السلطة ومن قبضتها. المسألة ليست بين «الميادين» و «المنار» والمملكة العربية السعودية فقط. تلك مسألة ذات بُعد عالمي. الانقلاب النيوليبرالي ما كان ليتحقق ويستمر من دون القبض على الإعلام. وما كان لأنظمة الاستبداد العربية أن تتأبّد لو لم تقبض على الكلمة الحرة، وتسخّر الإعلام لجزماتها. وما كان للسعودية وشقيقاتها أن ترتاح لسياساتها وارتكاباتها، لو لم تقبض وتهيمن وتستخدم معظم وسائل الإعلام لحمايتها. السعودية محمية بإعلامها وإعلام مَن معها بثمن، وليس بجيوشها وسياساتها و «حكمتها».

الإعلام الغربي تسيِّره من بعيد، بإغراء مقنع وإملاءٍ بشوش، مصالح شركات كبرى. من يملك المال يملك الحقيقة. لذا، لم ينج غرب الحريات من مذبحة «حرية الإعلام». تشومسكي يشبّه الإعلام الامتثالي في دول الغرب، بالإعلام السوفياتي. الأول ذكي والثاني غبي. الأول مأمور ومرفَّه، فيما الثاني مأمور وخائف. للإعلام السوفياتي لجنة مركزية واحدة، وللإعلام الغربي، رب عمل واحد مؤلف من شركات عملاقة عابرة للقارات والقيم.

مملكة الصمت والنفط واحدة من هذه الإمبراطوريات الإعلامية، المالكة صحفاً ومجلات وإذاعات الشاشات وكابلات وأقماراً صناعية. إعلامها الخاص منتشر في أراضيها وفي ضفاف السعودية العربية والإسلامية. إعلامها «الصديق» المدفوع، أكثر انتشاراً وامتثالاً. الإعلام المستقل عنها، لا يجازف بنقدها، خوفاً من عقوبات تطال مداخيله. ثم ان السعودية، في المجال الإعلامي الدولي، محمية بقرار من اللجنة المركزية العليا للطبقة المالية العالمية الحاكمة، والمتداخلة المصالح والثروات.

المملكة المحمية والمتمتعة بحصانة لم تتوفر لدولة من قبلها، تضيق ذرعاً بأقلام مختلفة وأصوات نقدية، فتطرد «المنار» و «الميادين» من «عربسات». هذا أمر متوقَّع. ومتوقع أكثر أن تضيق مساحة الإعلام المختلف وأن يتعاظم شأن الإعلام الأحادي، وأن تتساقط القضايا الإنسانية وأن تهمّش مآسي الشعوب العربية، التي ترتقي بدمائها وأشلائها، جلجلتها، المحجوبة عن الصورة والكلمة والعبرة.

لامرئ القيس رجاء، ولنا مثله: «ألا أيها الليل الطويلُ انجلِ»… ربما يحصل الضوء العربي على إذن بالدخول في مرمى العتمة العربية القائمة.