«إننا مجرد قطرة ماء في محيط كل ما تفعله هو الزحف على الأرض ونرفض الاعتراف بأننا مجرد رماد في مهب الريح» (كنساس)
رائعة «جورج أورويل» عنوانها «ألف وتسعمئة وأربع وثمانون»، رواية نشرت سنة على خلفية انتشار الفكر الشمولي بكافة أشكاله، ومنه التجربة الشيوعية التي حظيت بقبول وشعبية واسعة في تلك الأيام خاصة عند الشباب حول العالم. في الوقت ذاته فقد كان أورويل، الإشتراكي الإنساني، يرى بأن النموذج الرأسمالي ليس بعيدا عن النمط الشمولي ولكن من خلال سيطرة الشركات الكبرى.
اعتبر أورويل أن العالم سيتحول خلال بضعة عقود إلى مجموعة من القوى الكبرى يقود كل منها «أخ أكبر» يدير جميع رعاياه ويتحكم بهم ويسير حياتهم، وواجبهم هو السعي إلى نيل رضاه والخوف منه واحترامه لأنه يراقبهم في كل لحظة من حياتهم.
هذا الحدث توقعه الكاتب بعد تدني قيمة الإنسان الفرد لدرجة تحول فيها إلى رقم في لائحة الأخ الأكبر الذي يتصرف مع البشر بالجملة حسب رؤياه «لخدمة المصلحة العامة». يعني ببساطة ذوبان الفرد في الجموع وذوبان الجموع في إرادة الأخ الأكبر الذي بيده موت أو حياة الناس، وفي بعض الأحيان مصيرهم ما بعد الموت!.
الغريب في البشر بشكل عام هو قدرتهم على تكرار التجارب الكارثية في كل مرة يستتبعون أنفسهم وأبناءهم وأرزاقهم لإرادة أخ أكبر جديد، يسحرهم بكلام يجتره عن النصر والتضحية ونيل الشهادة في معارك العزة والكرامة، فتتراكم الجثث في الساحات وتحت الركام وينحر مستقبل الآلاف والملايين على مذبح إرادة الأخ الاكبر، راعي الجميع وقائدهم.
في أحد الأفلام الأميركية المستوحاة من كتاب أورويل، نشرت إدارة أخ أكبر ما في دولة إفتراضية، شاشات عملاقة في كل أنحاء البلاد، وصادرت كل وسائل الترفيه والفنون والآداب، وصار مصير من يمارسها الموت المؤكد على أساس قوانين سنها القائد الملهم للأمة.
سلوى البشر الوحيدة أصبحت محصورةً في تسجيلات لخطب الأخ الأكبر يبثها تلفزيونه وهو قابع في مكان لا يعرفه البشر العاديون، حفاظاً على قدسيته وسرية تنقلاته من «أعداء الأمة«…
حكاية مألوفة ولا شك، فنحن اليوم نعيش تحت سلطة أخ أكبر يدعونه البعض «سماحة السيد»، بيده قرار الحرب والموت وقطع الأرزاق وقطع الأعناق وتخريب العلاقات وشتم الأصدقاء وتصدير الشهداء إلى كافة أرجاء المعمورة من الأرجنتين إلى البوسنة إلى بورغاس والقاهرة وسوريا والعراق والبحرين والكويت واليمن، ورغم كونه هو نفسه أخا أكبر، لكنه يفتخر بكونه تابعا لأخ أكبر جامع للشرائط مقيم في طهران.
مسرحية هزلية ولا شك ، لكنها مفهومة فقط عند ذوي الألباب أصحاب العقول الراجحة، أصحاب التجربة الإنسانية التي جعلتهم يفهمون قيمة الإنسان بالمقارنة مع الخطب الفارغة. ولكن هل يكفي الذكاء والفطنة لتجنب الوقوع في شرك أخ أكبر؟.
منذ سنوات، كان لي صديق يساري ماركسي كان قد أطال لحيته تيمنا بلحيتي «كارل ماركس» و»فريديريك أنجلس»، وعلي أن أعترف بأنه كان شديد الفطنة متقد الذكاء وكان معجبا بالرفيق «ستالين». بعيد انتصار الثورة في إيران فاجأني صديقي بتعبيره عن الإعجاب البالغ بالإمام الخميني قائلا «يا عزيزي عندما رأيت مئات آلاف الإيرانيين مجتمعين نهار الجمعة يستمعون بخشوع للإمام لم أتمالك نفسي من البكاء تأثراً».
ابتسمت بمرارة وقلت له «في مهرجان في مدينة ميونيخ عشية الحرب العالمية الثانية اجتمع الملايين لسماع خطبة أخ أكبر آخر إسمه الفوهرر، وبكى الكثيرون منهم تأثرا وساروا كالقطيع نحو المذبحة مع أن الشعب الألماني مشهور في العالم بشدة الذكاء… يا عزيزي إن أسوأ حكم على حقائق الأمور هي الجموع المحتشدة» لم يجبني صديقي وانقطع الوصل بيننا مع أنني ما زلت ألحظه منصتاً في الصفوف الأمامية لخطبة الأخ الأكبر المحلي.
()عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»