يبدو أنّ الطبيعة استشعرَت مصاب اللبنانيين وحجم المعاناة التي عصَفت بهم في الزمن الانتخابي، فأحبّت أن تتضامن معهم على طريقتها، فبَعثت إليهم دفعة أمطار ربيعية غزيرة، بدت وكأنّها مساهمة منها في تنظيف الأجواء الداخلية ممّا نُثِر فيها من غبار وملوِّثات وأوبئة ونفايات.
هذه المبادرة التضامنية من الطبيعة، ربّما تنطوي على دعوة غير مباشرة إلى اللبنانيين، للاقتداء بها، والشروع فوراً في كنسِ «الوسخ» الانتخابي الذي خلّفة الخطاب التحريضي الطائفي والمذهبي والغرائزي الملوّث بنفَسٍ أنانيّ، استعلائي، إقصائي، إلغائي، استئثاري، أفقد السياسة معناها وشوَّهها، ووَضع البلد كلّه على حافة السقوط في هاويةٍ كارثية تهدم الهيكل اللبناني على رؤوس الجميع.
لعلّها دعوة من الطبيعة، إلى تنقيةِ البلد من هذا التلوّث، وأولى الخطوات في هذا الاتجاه، هي جلسة مع الذات، والاعتراف بالخطأ، وكذلك الاعتراف بالصح، والنظر إلى مكامن الصح وتعزيزها، وإلى مكامن الخلل ومحاولة الاستفادة من التجربة من سَقطات المرحلة التحضيرية للانتخابات، وبالتالي وضعُ خريطة الطريق لمعالجتها وتصحيحها إنْ كان هناك من مجالٍ بعدُ للعلاج والتصحيح.
وأهمّ مِن كلّ ذلك الاعترافُ بالأحجام التي أفرَزتها الصناديق وحدَّدت لكلّ طرفٍ حجمَه الطبيعي والحقيقي، وليس في الإمكان تجاهلُ هذه الحقيقة، والإصرار على الهروب إلى الأمام بمحاولة تزويرها وإيهامِ الناس بانتصارات وهمية، وبانتفاخات أشبَه ما تكون بـ»الحَمْلِ الكاذب».
هنا المشكلة، وهي تتأكد بمجرّد إلقاءِ نظرةٍ بسيطة إلى واقع ما بعد الانتخابات، وإلى تعاملِ بعض القوى السياسية مع النتائج، وخصوصاً تلك التي قدّمت نفسَها من النوع القوي الذي لا يقهَر، هذه النظرة البسيطة تُظهر حقيقةً صادمة، بأنّ المهمة التنظيفية المفترَضة صعبة جداً، لأنّ الذهنية التي عاثت في المجتمع اللبناني تحريضاً وحقناً وتجييشاً مصِرّة على:
- المكابرة، وعدم الاعتراف بالهزيمة وبسقوط أحلامها في صناديق الاقتراع، وأحلَّ مكانها الناخبون كوابيس مرئية ومسموعة من كلّ الناس، وموضع تنَدُّر في ما بينهم.
- عدم الاعتراف بسقوطها في المرحلة التحضيرية للانتخابات، في خطأ حساباتها وفي وهم اعتقادها بأنّها بقوة «10 KVA « (بلغة موتورات الكهرباء) عابرة للقارّات والمغتربين، فإذا بصناديق الاقتراع تقدّم حجم قوّتِها الحقيقية بما لا يتجاوز الـ»5 أمبير».
- عدم النزول عن شجرة الأحلام، وكأنّ شيئاً لم يحصل، وكأنّ ذاك السيل الكبير من الوعود لم يُقطع، وكأنّ الفشل في تحقيق الكمّ الهائل الموعود من المقاعد النيابية حدثٌ عابر وأمرٌ طبيعي لا يستحقّ الوقوف عنده وتقييمَ أسبابه وإيجاد السبب الرئيسي للعلّة.
- عدم الاعتراف بأنّ لونَها السياسي فقد وهجَه حتى في الدوائر التي اعتبَرها عرينه، وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على التيار الوطني الحر، وكثيرون في داخله وخارجه يلقون مسؤولية تراجعِ الوهج البرتقالي على القيادة الحالية للتيار.
- تجاهُل أنّ الحجم المنتفخ اصطناعياً، عبر تلقيحِه بصديق أو أصدقاء أو حلفاء لزيادة عدده، لا يحجب حقيقة الحجم الحقيقي، وهذا أيضاً ينطبق على التيار الذي يقول إنه يملك تكتلاً نيابياً يصل إلى 29 نائباً، فيما عدد مقاعده البرتقالية الصافية 18 نائباً. حتى الرقم 29 هو دون الطموحات التي سعى إليها من خلال ترشيحاته التي تجاوزَت الخمسين مرشّحاً بكثير.
- عدم الاعتراف بأنّ مقولة «التسونامي» العوني لم تعُد قائمة، والمزاج الشعبي صار في مكان آخر. وتكفي نظرة الى نتائج مرشّحي التيار الخاسرين، وكذلك الفائزين في مناطق توصَف بالعرين، إذ ما كان فوزهم ليكونَ لولا الاستعانة بصديق. وتكفي نظرة إلى النتائج الكبيرة التي حقّقها حزب «القوات اللبنانية». وإلى التقدّم النوعي لتيار المرَدة.
وإلى جانب ذلك، تكفي نظرة إلى الانقلاب الكبير الذي أحدثه فوز الرئيس ميشال المر في المتن، بحيث إنّ هذا التسونامي البرتقالي بكلّ مقدّراته وتحالفاته، تحوّلَ إلى موجة انكسرَت على صخرة «أبو الياس». وكسَرت معها في الطريق التسونامي الحزبي الذي تكتّلَ في وجهه مع التيار الوطني لإلغائه، من حزب القوات، إلى حزب الكتائب إلى الحزب القومي وحزب الطاشناق. وفي الخلاصة هنا، إنّ هزيمة هذا التسونامي المزدوج، أمام أبو الياس، يجب التوقّف عندها والتبصّر فيها والنظر إليها بما هي كحدثٍ أكثر من نوعيّ ضرَب كلّ الحسابات الخاطئة التي أحاطت بالمنطق الاستعلائي الذي حكم فريق الإلغاء.
- عدم الاعتراف بأنّ التحالفات الهجينة التي نُسِجت خارج المبادئ والاخلاق السياسية أثبتت فشَلها مع الجميع، وأكثرُ المتأثّرين هنا هو التيار الوطني الحر، الذي ثبتَ أنّ التحالفات الواسعة التي صاغها جبران باسيل ارتدّت بالسلبية على التيار، وأنزَلته من موقع التيار القوي إلى التيار العادي. والطريف في الأمر أنّ كلّ مَن واجَههم جبران في الانتخابات ربحوا.
ولعلّ الخطأ الكبير الذي ارتكبه جبران في تحالفاته أنّه قدّم لوائحه على أنّها «لوائح العهد»، ما يعني تلقائياً أنّ اللوائح الأخرى هي لوائح ضدّ العهد.
ولنلحق بهذه التسمية إلى الآخر، فقد أظهَرت النتائج فوزاً لبعض أعضاء ما سمّاها جبران لوائح العهد، والفائزون يُعتبَرون نوّابَ العهد أو مولاة العهد، كما أظهَرت في المقابل فوزاً أكبر لِما سمّاها جبران نفسُه لوائح ضدّ العهد، وأنّ الفائزين فيها ليسوا نواب العهد بل معارضة العهد. يعني أنّ ما قام به جبران أنه خلقَ واقعاً عنوانُه موالاة العهد ومعارضة العهد، موالاة تضمّ نواباً من التيار الوطني الحر وحلفائه ( 29 نائبا كتكتّل بحسب الإحصاءات البرتقالية)، يضاف إليهم تيار المستقبل (21 نائباً)، يعني في حدود الخمسين نائباً، ومعارضة تضمّ الآخرين، ليس بالضرورة أن تكون ضِمن إطار واحد، وتصل إلى 78 نائباً.
هذه الصورة شجّعت البعض على القول «هناك قول معبّر» ضُرِبتُ مِن بيت أبي»، لقد تعرّضَ العهد لنكسةٍ موجعة، وكلُّ ما بناه عون في السياسة على مدى سنوات طويلة أطاحت به تحالفات جبران. فرئيس الجمهورية ميشال عون قال إنّ حكومة العهد الأولى هي التي ستتشكّل بعد الانتخابات، وها هي الانتخابات أفرزَت موالاة محدودة ومعارضة واسعة، فأيّ حكومة عهد ستتشكّل في ظلّ هذه الخريطة النيابية الجديدة؟ وعلى أيّ صورة سيُكمل العهد؟
وهذه الصورة نفسُها، شجّعت أحدَهم على مصارحة شخصيةٍ برتقالية بقوله: «الشركات المحترمة، كشركات صناعة السيارات أو أجهزة الهاتف وغيرها من الصناعات، إذا أنزَلت إلى السوق سيارةً أو جهازاً هاتفياً، أو برّاداً، أو غسّالةً، وغيرَ ذلك، وظهَر خللٌ ما في هذا المنتوج، تُسارع إلى الاعتذار من المستهلك، وسحبِ هذا المنتوج من السوق، فإمّا تتلفُها، أو تستبدلها، وإمّا تُصحّح الخللَ أو تُعدّل فيها، ومِن ثمّ تعيد إنزالها إلى السوق، وطبعاً لا ننسى محاسبة المصمّم، أو المنفذ. ثمّة تجربة لم تكن ناجحة في التحالفات، لذلك أقلُّ الايمان هو الاقتداء بهذه الشركات».