بين الطيف الواسع والمكثف من العقوبات التي أثقلت كاهل “نظام الملالي”، والتي توصف بأنها الأقسى في تاريخ البشرية الحديث، وتلويح إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإمكان لجوء واشنطن إلى الخيار العسكري ضد طهران في حال فشل العقوبات الأميركية في حمل “نظام الملالي” على تغيير سياساته والتخلي عن دعم الإرهاب والتدخل في شؤون دول الجوار، وتطوير أسلحة استراتيجية وبرامج نووية، والمضي قدماً في تقديم الدعم التسليحي واللوجيستي للميليشيات والجماعات المارقة الموالية له في المنطقة، أضحى الولي الفقيه أكثر قرباً من أي وقت مضى إلى الرضوخ مضطراً إلى نداءات المجتمع الدولي ومطالباته، في ما يتصل بتغيير سياساته العدوانية حيال محيطه الإقليمي وعلى المستوى الدولي، ويبدو أن هذا التفنن الأميركي والدولي في آليات وأساليب الضغط على إيران بدأ يؤتى أكله، لاسيما وأنه نجح في شلّ حركتها عبر حرمانها من توظيف عوائد نفطها، التي تسهم في أكثر من 80 في المئة من موارد موازنتها، بعدما أعادت إدارة ترامب فرض عقوبات على صادرات النفط الإيرانية في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، استثنت منها لمدة ستة أشهر، ثماني دول تعد الأعلى استيراداً للنفط الإيراني، هي: الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وتركيا وإيطاليا واليونان، فيما أكد وزير الخارجية الأميركي مايكل بومبيو أخيراً، عزم بلاده اعتباراً من غدا الخميس ( الثاني من أيار/ مايو) عدم منح إعفاءات جديدة من العقوبات، ما يعنى إمكان تعرض تلك الدول (الثماني) لعقوبات أميركية إذا ما واصلت شراء النفط الإيراني بعد هذا التاريخ، في وقت ضمنت واشنطن بالتوازي، تعويض توقف حصة إيران في سوق النفط العالمي جراء العقوبات، من خلال التنسيق مع السعودية ودولة الإمارات، بل وحتى العراق، فضلاً عن الدول المصدرة للنفط من خارج منظمة “أوبك” بقيادة روسيا عبر صيغة “أوبك بلس”.
تحت وطأة تلك العقوبات المتفاقمة والضغوط المتنوعة، اضطر الولي الفقيه إلى مراجعة حساباته، توطئة للتخلي عن تعنته وإبداء شيء من المرونة إزاء مطالب المجموعة الدولية، تلافياً لتعاظم الخطب واتساع رقعة الاحتجاجات الشعبية الغاضبة التي تجتاح معظم المدن الإيرانية منذ عامين، على خلفية تعاظم التدهور الاقتصادي، واشتداد وطأة التأزم السياسي والتهاب الوضع الاثني، في وقت تؤكد مصادر أميركية وصول ثروة المرشد الإيراني إلى 200 بليون دولار.
وبمرور الوقت، بدأت تلوح في الأفق إشارات لتحول جوهري في تفكير النظام الإيراني، تمهيداً لتغيير سياساته بشكل تدريجي، على نحو بدا جلياً على مستويات عدة: أولها، جنوح الولي الفقيه للإقلاع عن تهديداته الجوفاء والاتجاه إلى توسّل سبل يظنها كفيلة في طمأنة جيرانه العرب، إذ أعرب الرئيس روحاني في كلمة أمام “مؤتمر الوحدة الإسلامية” في دورته الـ32 في طهران في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عن استعداد بلاده للدفاع عن “الأشقاء” في الجزيرة العربية، وعن مصالح الشعب السعودي “الشقيق” ضد الإرهاب والقوى العظمى، من دون مقابل، كما جدَّد تأكيده أن إيران لا تشكل خطراً على أي طرف، داعياً جموع المسلمين إلى الاتحاد ضد الولايات المتحدة وإسرائيل. أما ثاني إشارات التحوّل الإيراني، فتجلّى في استمرار تمسك طهران بالاتفاق النووي على رغم الانسحاب الأميركي أحادي الجانب منه في مايو الماضي، والتزام الولي الفقيه ببنوده، مخالفاً بذلك تهديداته السابقة بالتنصل منه ومعاودة تخصيب اليورانيوم بمعدلات غير مسبوقة. وللتذكير، جددت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 22 نوفمبر الماضي، تأكيدها التزام إيران تعهداتها المنصوص عليها في الاتفاق النووي (العام 2015)، مشيدة بتعاونها في عمليات التفتيش كافة المتعلقة بأنشطة طهران النووية، من دون معوقات. وحتى عندما أصر الولي الفقيه على استفزاز المجتمع الدولي مجدداً من خلال معاودة إجراء اختبارات على صواريخ باليستية متوسطة المدى، لجأ إلى الزعم بأن الاتفاق المبرم مع السداسية الدولية في العام 2015، لم يتضمن نصوصاً قاطعة تجرم إجراء مثل هذه التجارب الصاروخية، كما ادّعى زوراً وبهتاناً بأن قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة كالقرار 2231، تحظر على طهران تطوير واختبار صواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية، بينما تقتصر التجارب الصاروخية الإيرانية على صواريخ دفاعية تفتقر إلى هذه القدرة، وفق زعم الإيرانيين.
ويتمثّل ثالث الملامح في تآكل قدرة “نظام الملالي” على تمويل مغامراته العسكرية المريبة في الخارج، خصوصاً بعدما قفز إنفاقه العسكري السنوي من 16 في المئة من إجمالي موازنة طهران للعام 1993، إلى 52 في المئة من موازنة العام 2016، إثر تورط إيران في حروب تدور رحاها في أربع دول هي: سورية، العراق، لبنان، واليمن، ما يكبد الخزينة الإيرانية 30 بليون دولار سنوياً، فيما يقدر خبراء كلفة ما أنفقته طهران على حروبها كافة ودعمها للميليشيات الموالية لها منذ مطلع ثورة العام 1979 وحتى اليوم بثلاثة تريليونات دولار، تلقى منها “حزب الله” اللبناني منذ تأسيسه 300 بليون دولار، ونظام الأسد 15 بليون دولار، والميليشيات العراقية والسورية بليوني دولار سنوياً، وحركة حماس بليوني دولار، والحوثيون في اليمن ثمانية بلايين دولار. غير أن انزلاق الاقتصاد الإيراني إلى نفق مظلم جراء العقوبات المتنامية، التي استنفد الولي الفقيه أساليبه ومناوراته في التحايل عليها، وتفشى الفساد واستشراء غسل الأموال وطغيان سوء الإدارة، بالتزامن مع هلاك الأرصدة التي كانت مجمدة وتم الإفراج عنها وضخها لصالح موازنة “الحرس الثوري” عقب إبرام الاتفاق النووي في العام 2015، بدأ دعم طهران المالي واللوجيستي والتسليحي للميليشيات المسلحة الموالية لها في دول الجوار يتقلص تدريجياً، ما انعكس سلباً على أنشطتها وأدائها العملي ومن ثم موقفها السياسي، حتى أن “حزب الله” اللبناني اضطر إلى تقليص رواتب عناصره، وتأجيل دفع المساعدات الشهرية إلى أصدقائه وحلفائه السياسيين في لبنان، كما أجبر الحزب على البحث عن مصادر تمويل بديلة؛ كاستجداء التبرعات من رجال أعمال شيعة في لبنان وغيره من الدول العربية كما في بلدان أخرى حول العالم. وبالتوازي مع اشتداد وتيرة التنافس الروسي – الإيراني حول النفوذ والغنائم الاستراتيجية في سورية، بدأ النفوذ الإيراني المتغلغل في العراق يتراجع بشكل لافت بعدما افتضحت للعراقيين حقيقة الاستراتيجيا الإيرانية الشيطانية، الرامية إلى استغلال الانقسام الطائفي والأحزاب الشيعية للتحايل على العقوبات وتسهيل التغلغل الإيراني في العراق، والتي لا تتورّع عن توظيف الدعاية الدينية الطائفية لتمزيق أوصال ذلك البلد العربي وإشعال الفتنة بين مواطنيه.
ولعل هذا التراجع في النفوذ الإيراني داخل العراق بالتزامن مع تعاظم الرفض الشعبي العراقي لهذا النفوذ، هو ما دفع رئيس “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني إلى تشكيل فرق اغتيال تابعة لإيران ونشرها في العراق ابتداءً من شهر مايو الماضي، عقب فشل مساعِ إيرانية هدفت إلى ابتزاز الحكومة العراقية ودعم مرشحين برلمانيين تابعين لها خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة، بغية استهداف مناهضي إيران ومنتقديها داخل العراق، فضلاً عن إرهاب الحكومة العراقية الجديدة ذات التوجهات الإصلاحية الرامية إلى إنهاء التدخل الإيراني في العراق. وفي صفعة موجعة لطهران، وعقب تشديد الخارجية الأميركية عزمها عدم تجديد الإعفاءات الممنوحة إلى الدول الثماني المستوردة للنفط الإيراني بحلول الثاني من مايو الجاري، أكد مسؤول عراقي استعداد بلاده لزيادة صادراتها النفطية بمعدل ربع مليون برميل يومياً، بغية سد العجز المعروض في حال تطلبت السوق الدولية ذلك.
أما الملمح الأبرز، فتجلى في إبداء “نظام الملالي” استعداداً للقبول بإعادة التفاوض مع الأميركيين. فعلى وقع الانفتاح المتسارع الذي تشهده العلاقات السعودية – العراقية، وبالتزامن مع التقارير الاستخباراتية الدولية التي تتوالى مؤكدة إجراء مفاوضات بين الإيرانيين والأميركيين تحت جناح السرية في سلطنة عمان بغية التوصل لاتفاق بديل للاتفاق النووي للعام 2015، تصرّ واشنطن على أن يكون أكثر تكاملاً وصرامة وشمولاً هذه المرة، ليلبي الشروط الأمريكية الـ 12،وخلافا لتأكيد المسؤولين الإيرانيين عدم رضوخ بلادهم للضغوط المنبثقة عن منطق القوة الذي تصرّ واشنطن على انتهاجه حيال بلادهم، لم يتوقف كبار المسؤولين الإيرانيين عن التلويح أخيراً بإمكان التفاوض مجدداً مع الأمريكيين في شأن اتفاق جديد. وفي السياق، أعلن النائب الأول للرئيس الإيراني، إسحاق جهانغيري، العام الماضي، جهوزية طهران للتفاوض مع واشنطن، في حال تخلت الأخيرة عن سياسة التهديد والوعيد وآثرت التعاطي مع الإيرانيين بلغة مهذبة وأساليب أكثر احتراماً. وبعدما هدد المرشد الإيراني علي خامنئي برد حاسم على عقوبات واشنطن النفطية ضد بلاده، ثم تعيينه الجنرال حسين سلامي، المعروف بتشدده، قائداً لـ “الحرس الثوري”، وفيما لم يتورع جنرالاته عن معاودة إطلاق تهديداتهم الواهية بإغلاق مضيق هرمز، خرج الرئيس حسن روحاني على العالم مجدداً استعداد بلاده للتفاوض مع واشنطن، إذا ما اعتذرت وعلقت ضغوطها على طهران. بدورها، تبارت قيادات ميليشيا “حزب الله” اللبنانية بالتوازي، في التبرؤ من وعيدها الأجوف باستهداف أميركا وإسرائيل عسكرياً، في حال إمعان واشنطن في تغليظ عقوباتها الرامية إلى تصفير الصادرات النفطية الإيرانية.