يوماً تلو آخر تخرج الصور المؤلمة من الموصل… من صور بيوت مهدمة، إلى صور مدنيين يفرون وإطلاق الرصاص فوق رؤوسهم، وبالطبع صور جامع النوري الكبير ومنارة «الحدباء» التي فجرها الحاقدون بعد أن وقفت شامخة لأكثر من 9 قرون. الواقع المؤلم هو أن هذه الصور باتت شبه «اعتيادية»؛ صور الدمار لم تعد تحرك الضمائر، إذ اعتادت عليها. إلا إنه من المستحيل أن نقبل بأن تصبح صور الأطفال وهم يتألمون «اعتيادية»، وإلا فسنخسر الحاضر والمستقبل. صور الأطفال العراقيين الذين يخرجون من الموصل وآثار المجاعة واضحة عليهم تدل على شدة المأساة في العراق. هل يعقل أن أطفالاً من أغنى دول العالم يعانون المجاعة في ديارهم؟ يبدو أن في العراق كل شيء جائز. وبالطبع، المسؤول الأول عن معاناة أطفال العراق هم الإرهابيون وحاملو السلاح غير الشرعيين. ولكن هذه نصف الصورة. لا يمكن إخلاء مسؤولية من لديه السلطة لمساعدتهم اليوم، بوجود تمثيل لكل المؤسسات والمنظمات الإنسانية، يعول عليهم في تحمل مسؤولية إيصال المساعدات للأطفال، فعلى سبيل المثال؛ «اليونيسيف» أطلقت حملة لتلقيح الأطفال الذين يأتون من مناطق خضعت لسيطرة «داعش» والذين لم يتلقوا أي تلقيح على مدار 3 سنوات مريرة. ولكن مسؤولية معاناة المواطنين العراقيين، خصوصاً الأطفال، تقع على عاتق الحكومة العراقية أولاً، وعليها أن تتحمل هذه المسؤولية.
صور هؤلاء الأطفال تعيد إلى الذاكرة صور الأطفال الذين كانوا يعانون سوء التغذية الذي ظهر أيام حصار العراق بعد غزوه الكويت، وحينها كان يتذرع نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بأن العقوبات هي سبب هذه المعاناة، ولكن في الواقع كان النظام هو من فشل في توفير ما يحتاجه الشعب؛ فبينما كانت المواد المطلوبة تصل للقصر الجمهوري، بقيت المستشفيات خالية من الدواء والمستلزمات الطبية. وبالطبع، هناك اختلاف كبير بين نظام صدام والحكومة العراقية اليوم، والظروف تختلف، ولكن نقطة مسؤولية الدولة عن مواطنيها تنطبق في الحالتين. متى سيكون للعراق ساسة يحرصون على الشعب وعلى الدولة؟ الوقت بدأ يتجاوزنا لتأمين وتأهيل جيل جديد يستطيع إعادة بناء العراق وترسيخه.
فبحسب «اليونيسيف»، هناك 4.9 مليون طفل عراقي مهدد اليوم بسبب النزاعات والجوع؛ 1.49 مليون منهم دون سن الخامسة. وتقول منظمة الهجرة الدولية إن 55 في المائة من النازحين من الموصل أطفال. ومن القضايا التي تهدد مستقبل العراق – بل المنطقة – عدم حصول مئات الآلاف من أطفال العراق على التعليم؛ وحتى من يحصل على التعليم، فهو في غالب الأحيان بمستوى رديء. هؤلاء هم أطباء ومعلمو ومهندسو العراق مستقبلاً… فماذا يحل بالبلاد من دونهم؟
وبحسب تقرير للأمم المتحدة بعنوان «تكلفة التعليم»، فإن العراق الدولة التي تخصص أقل نسبة من الإنفاق العام على التعليم؛ إذ مثّل الإنفاق العام على التعليم بين عامي 2015 و2016؛ 5.7 في المائة فقط من مجموع الإنفاق الحكومي. ومن المثير أن نصف الأطفال في مخيمات النازحين لا يحصلون على أي تعليم رسمي. اتباع سياسات قصيرة الأمد وعدم الاكتراث بهذه المسألة التي ستؤثر على مستقبل العراق أكثر من أي قضية أخرى، يجعل البلاد في خطر حقيقي. ولكن في الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل بعض الجهات العراقية التي تسعى لحماية التعليم في العراق؛ فعلى سبيل المثال، حرص وزير التعليم العالي والبحث العلمي العراقي عبد الرزاق العيسى على تفقد جامعة الموصل بنفسه وحضور أول مناقشة لأطروحة دكتوراه في كلية العلوم بجامعة الموصل. حضوره فيه دلالة على الاهتمام بالموصل وبالمدن التي عانت ما عانته من «داعش» وتخلي كثيرين عنها.
وبينما يواصل تحالف 62 دولة محاربة «داعش»، وتصرف المليارات من الدولارات على الأسلحة، ففي النهاية، سلاح العراق الحقيقي سيكون هؤلاء الأطفال. لا يحتمل العراق أن يخسر جيلاً آخر.
وقد ضحى الجيش العراقي ومن سانده بالكثير من أجل إخراج «داعش» من الموصل، وتحمل ما تحمله أهل الموصل وباقي المناطق التي غزتها هذه المنظمة الإرهابية. و«التحرير» كلمة تعبر عن حالة احتلال سبقته وقام بها مجرمو «داعش»، ولكن من الصعب «الاحتفال به» وهناك أطفال يئنون تحت أنقاض بيوتهم ويعانون الجوع والعطش وهم يعيشون في مخيمات في هذا الصيف القاسي.