أعلنت إيران بوضوح أنّ صواريخها البالستية التي يصل مداها إلى 2000 كلم، موضوعة بتصرّف ثلاثة شعوب: العراق، سوريا، لبنان، إضافة إلى فلسطين. وهكذا يرسم الإيرانيون حدودَ نفوذهم الإقليمي حتى الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.
في الأشهر الأخيرة من ولايته، يترك الرئيس باراك أوباما عاملَ الوقت يأخذ مداه في الشرق الأوسط. وهناك انطباعٌ لدى حلفاء واشنطن في الخليج العربي بأنّ الأميركيين تحوَّلوا في نهاية العهد مارداً من ورق. فكأنهم لزّموا الكيانات الشرق أوسطية لروسيا وإيران وإسرائيل، وتركيا جزئياً، وجلسوا يتفرَّجون!
وقبل أن يغادر أوباما كرسيّه في البيت الأبيض ويرتاح في منزله، إرتاح من متاعب الشرق الأوسط باكراً، وانسحب تاركاً القوى الإقليمية تتوزّع النفوذ في الكيانات المنهارة، أو تتصارع عليها.
وحتى مهمّة التصدّي لـ»داعش» التي كانت «الشمّاعة»، بالنسبة إلى الجميع، يتخلّى عنها أوباما، بعدما تبيَّن أنّ الضربات التي جرى توجيهها إليها في العراق وسوريا لم تكن تستهدف القضاء عليها بل رسم الحدود التي يجب عليها أن تلتزمها. فمَن يقف وراء «داعش»، ومَن اخترعها، وكيف يستثمرها؟
وفيما انسحب أوباما من الساحة الشرق الأوسطية، وبدأ التقاعد المبكر، يتسابق الوكلاء الإقليميون لتحقيق المكاسب على الأرض، وليفرض كلٌّ منهم موقعه قبل وصول الرئيس الأميركي المنتظر، سواءٌ كان ديموقراطياً أم جمهورياً.
وحتى بنيامين نتنياهو لم يعد يجد مبرراً للذهاب إلى الولايات المتحدة ولقاء أوباما الذي جزم فور مجيئه إلى البيت الأبيض، قائلاً: بعد عام من اليوم، ستكون هناك دولتان إسرائيلية وفلسطينية.
أما روسيا، فاستطاعت الدخول بقوة إلى المنطقة من بوابة «سوريا المفيدة»، وبالتنسيق الكامل مع إسرائيل، فيما تلقَّت تركيا وعوداً بألّا تشملها عمليات التقاسم المذهبي والقومي التي تتعرَّض لها سوريا والعراق، ولاسيما لجهة انفصال الأكراد والعلويين.
لكنّ الرابح الأكبر من الابتعاد الأميركي هو إيران التي باتت تجاهر بفرض نفوذها، في العراق وسوريا ولبنان، مستندة إلى المضامين الخفيّة لاتفاق فيينا الذي كرَّس اعتراف القوى الدولية بنفوذها الإقليمي، شرط أن تحترم الأمن الخليجي.
وإذ سحبت إيران يدها من الحوثيين في اليمن، لتطمين الخليجيين بأنها لن تمسّ بأمنهم الخاص، فإنها بدأت بوضوح تتصرّف على أساس أنّ نفوذها في «الهلال الشيعي» شرعي ولا جدال حوله، وتحديداً في الدول الثلاث:
1 – العراق: تُعتبر المناورات الصاروخية الإيرانية الأخيرة رسالة إلى الداخل العراقي في الدرجة الأولى، وقبل أيّ طرف آخر. فحليف إيران في سوريا، أي الأسد، يضمن قوته بدعم روسي. وأما في لبنان فحلفاء إيران هم أصحاب القرار.
لكنّ طهران تخشى أن يضيع حلفاؤها العراقيون بسبب الخلافات الداخلية والحالة الخاصة التي يشكلها السيد مقتدى الصدر، فتضيع من يدهم رئاسة الحكومة. وقد أرسلت قائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني إلى بغداد في مهمة طارئة لهذه الغاية.
ويتم التداول بقرارٍ إيراني طارئ لترميم التباينات بين القادة الشيعية في العراق، أيّاً كان الثمن، في موازاة تخصيص إيران مبالغ مالية كبيرة دعماً لهم، ما يضمن استمرارَ سيطرتهم على السلطة، فيما يتم الاستعداد لإبرام عقود اقتصادية ضخمة بين طهران وحكومة كلٍّ من بغداد وأربيل.
2 – سوريا: إطمأنّ الإيرانيون إلى ضمان استمرار حليفهم الرئيس بشّار الأسد. فقد حسمت موسكو هذه المسألة بقوة السلاح، بعدما وصل الأسد و»حزب الله» والحرس الثوري الإيراني إلى مرحلة دقيقة كانت تهدِّد معقلَ الأسد في الساحل.
وعلى رغم التحليلات عن انزعاجٍ إيراني من تنامي قوة روسيا على حساب إيران في سوريا، فإنّ طهران تبقى مرتاحة إلى الضمانة الروسية لمنع أيّ مفاجأة غير سارّة هناك.
وتهتمّ إيران بترتيب منطقة نفوذ لها في سوريا، تشكّل جسراً يوصلها عبر العراق إلى لبنان. وهي تترصَّد ما ستؤول إليه المساعي لعقد مؤتمر جنيف بعد يومين، حيث سيبدأ المسار الطويل لإنضاج الحلول السياسية، وإيران جاهزة للقطاف.
3 – لبنان: يدرك الجميع أنّ التوازن الإقليمي الذي كان يظلّل لبنان تقليدياً، بين الإيرانيين وخصومهم الإقليميين، قد اهتزّ في الفترة الأخيرة. وقد طالبت الخارجية الأميركية بأن تستأنف الرياض تمويلها للجيش اللبناني وتتراجع عن خطواتها الاقتصادية المحتملة بحقّ لبنان.
لكنّ الأميركيين لا يبذلون جهوداً لتصحيح الخلل في التوازن لمصلحة إيران في لبنان. والأرجح أنهم وافقوا على نفوذ إيران السياسي والأمني، تحت مظلة دولية، على لبنان، فيما المطلوب من حلفاء واشنطن الخليجيين أن يكتفوا بالدعم المالي فقط!
وهكذا، تعود المعادلة اللبنانية سريعاً إلى ما قبل ربيع 2005. فالسنوات العشر الفائتة شهدت تجارب قاسية لاختبار مدى استعداد لبنان للخروج من الوصاية الإيرانية- السورية، وبناء «حكم ذاتي» لبناني، تحت مظلة التوازن بين المحاور الإقليمية. لكنّ التجارب انتهت إلى الفشل.
ففي تلك المرحلة، كان الأميركيون والأوروبيون والعرب يُلزِّمون الأسد كلَّ شيء في لبنان، ما دام يلتزم ثلاث مسائل:
– عدم فتح جبهة على إسرائيل من الجولان.
– ضبط الإرهاب الإسلامي.
– الحفاظ على استقرار الأنظمة والكيانات في المنطقة.
وبناءً على هذا التلزيم الأساسي، فتح الرئيس حافظ الأسد بازارات التلزيم الصغيرة، بناءً على «اتفاق الطائف». فأمسك بالأمن والسياسة مباشرة ومن خلال الدولة المركزية و«حزب الله»، وترك هامشاً للخليجيين في الاقتصاد والمال، من خلال تسوية «الطائف».
في الشكل، أعطى الأسد إيحاءً بأنّ البلد قام على التوازن الإقليمي. ولكن في العمق، كانت الدفّة كلها في يده، بل إنه جعل من لبنان بيئة جاذبة للمال الخليجي الذي استثمره إلى الحدود القصوى.
إذاً، إيران تتوثَّب اليوم للانقضاض مالياً واقتصادياً، وهي أساساً في موقع قوة أمنياً وسياسياً، في لبنان. ويؤدي موقف «حزب الله» إلى مزيد من التباعد بين لبنان والخليجيين. وهذه طريقة لإنضاج الظروف التي تدفع اللبنانيين إلى المطالبة بأن يكون المال الإيراني هو البديل.
ومن هذا المنظار، يقرأ المتابعون موقف وزير الخارجية السعودية عادل الجبير الذي يعتبر إطلاق الوزير ميشال سماحة إشارة إلى وقوع لبنان الرسمي تحت سيطرة «الحزب». وهذه الإشارة تجزم بأنّ الرياض لن تتراجع عن تدابيرها، لأنّ لبنان الرسمي ليس في وارد تفجير أزمة داخلية.
والواضح أنّ لبنان متَّجهٌ ليكون تحت سيطرة «حزب الله»، سواءٌ طرأت تبدّلات على صيغة لبنان الكيانية أو بقي في صيغته المركزية القائمة. وهذا المعطى هو جزءٌ من التوجّه الاستراتيجي الذي تسلكه كيانات «الهلال الشيعي».
إذاً، تتحرّك إيران بدينامية سريعة لتكريس حصتها في العراق وسوريا ولبنان، بمباركة القوى الدولية، والولايات المتحدة تحديداً. وأما إسرائيل فلا يزعجها أن يتدبّر الجميع مناطق نفوذهم ويتركوا لها ترتيب كيانها مصيرياً، والسيطرة على مجمل الشرق الأوسط استراتيجياً.