Site icon IMLebanon

مشيخة العقل… بين “التوحيد” والسياسة

 

قانوناً هناك شيخ عقل واحد وهو المنتخب من قبل أعضاء المجلس المذهبي

 

 

بين العرف والقانون، خصام ظهر حديثاً، ليفشي للعلن صراعات سياسية طاولت مشيخة العقل، ففرضت التعددية فيها، بعدما كانت مرجعية روحية موحدة لكل دروز العالم، مركزها لبنان.

يصعب على الباحث في شؤون مشيخة عقل طائفة المسلمين الموحدين الدروز تعريفها بشكل دقيق، نظراً لاختلاف الباحثين في تحديد معانيها وأصولها. لكن المؤكد أن التسمية الحالية، «مشيخة العقل»، هي الاسم الأخير لهذا المقام. وقد «ظهرت لأول مرّة بعد العام 1860»، وفق الباحث والاستاذ المحاضر في مادة التاريخ سعيد أبو زكي.

 

قبل هذا التاريخ، كان الرئيس الروحي يعرف بشيخ المشايخ، أو شيخ العقّال. وكان يُخاطَب بعبارة: الشيخ الجليل، أو الشيخ الطاهر. هذا ما تؤكده وصيّة شيخ العقال آنذاك، الشيخ حسين عبد الصمد المؤرخة في العشر الأخير من شهر شوّال 1275 هجري، الذي يوافق شهر أيار 1859 ميلادي، والمذيّلة بتوقيع شيخ العقّال عن «الجنبلاطيين» الشيخ حسن طليع الى جانب توقيع صاحب الوصيّة وشهود آخرين. مما يشير أيضاً الى الوئام والوفاق الذي كان يجمع الشيخين.

 

بحسب مقال نشرته مجلة الضحى في 10 أيار 2021 للباحث نديم الدبيسي أن «أول من تلقّب بلقب شيخ العقل كان الشيخ اسماعيل أبو حمزة (توفي في العام 1798)». ما يخالف ما بيَّنته الوثيقة المذكورة أعلاه، وما توصّل إليه الباحث أبو زكي.

 

استمرّ اختيار شيخ العقل بطريقة المشاورة والتباحث بين رجال الدين وحدهم، حتى صدور قانون تنظيم شؤون مشيخة عقل الطائفة الدرزية في العام 1962، لكنه لم يراعَ أي انتخاب منذ صدوره وحتى إلغائه بالقانون رقم 208 الصادر في العام 2000، الذي عاد وألغي بدوره مع صدور القانون الجديد في العام 2006.

 

إنقسام فوئام فانقسام

 

رغم ظهور تباين كبير بين المرحوم الشيخ بهجت غيث (1991 – 2006)، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط، لم يصل الحال الى تعيين شيخ عقل ثانٍ، واستمرّ المنصب بشيخ واحد منذ العام 1970 حتى العام 2006.

 

من خلال عرض سريع للأحداث، نستنتج مدى تأثر منصب «شيخ العقل»، أو «شيخ العقّال» بالحالة السياسية السائدة. فبعدما كان للموحدين الدروز مرجع واحد في جميع أماكن انتشارهم، باتوا يدينون بالولاء الديني لستة شيوخ موزعين بين لبنان وسوريا وفلسطين المحتلة.

 

بحسب المقال المذكور أعلاه للباحث نديم الدبيسي: «ظهر الانقسام في الرئاسة الروحية للموحدين الدروز في لبنان لأول مرّة في الربع الأول من القرن التاسع عشر، إثر خلاف نشب بين الأمير بشير الشهابي الثاني والشيخ بشير جنبلاط». «ليتعمّق الخلاف أكثر بعد معركة السمقانية (1825)، مما أدى الى انقسام الدروز على بعضهم، فأصبح لهم شيخان (يزبكي وجنبلاطي)». وفق ما أورده عادل عبد الصمد في كتاب «سيرة الشيخ محمد قاسم عبدالصمد».

 

أما على صعيد دول الجوار، فيتابع المقال: «بعد تقسيم الدول العربية، صار لكل من سوريا وفلسطين شيخها كما للبنان». ليلاقيه الدكتور تيسير أبو حمدان في كتابه «الدروز مسلكاً ومعتقداً»، حيث يقول: «منذ القديم كان لبنان مركزاً لمشيخة العقل… لكن بعدما وقعت البلاد تحت براثن الانتداب، اقتصرت سلطة مشيخة العقل على لبنان، وأصبح في كل من سوريا وفلسطين رؤساء روحيون يتولون شؤون الطائفة في الدولتين». ثم يعود ويورد في الكتاب ذاته ما يتناقض مع هذه المعلومة فيقول: «بدأت مرحلة وجود المرجع الروحي في جبل العرب في العام 1803». وقد حصلنا على وثيقة تؤكد وجود مرجع روحي في سوريا قبل الانتداب، وهي رسالة موجهة من الشيخ ابراهيم الهجري (1804 – 1840) للشيخ حسين عبد الصمد (لم يذكر فيها أي تاريخ).

 

أما في فلسطين المحتلّة، فيقول الدكتور حسن البعيني في كتابه «جبل العرب» إن الرئاسة الروحية انتقلت من آل نفّاع لآل طريف في العام 1753. ما يؤكد وجودها قبل هذا التاريخ.

 

بالعودة الى لبنان، بدأ التطور الدراماتيكي في مشيخة العقل منذ العام 1825 آخذاً أشكالاً مختلفة، وتحولات جذرية. فمنذ هذا التاريخ انقسمت الرئاسة الروحية الى رئاستين، لتأخذ بعد العام 1960 تسمية مشيخة العقل بشكل رسميّ، وتتحوّل من مرجعية روحية عليا الى منصب دينيّ رفيع، وبدأت تدخل في مهام شيخ العقل شؤون دنيوية كرئاسة الهيئة الاستئنافية العليا للقضاء المذهبي الدرزي، وإدارة الأوقاف، وغيرها، على حساب الصلاحيات المرجَعيّة الروحية. ثم تشعّب الانقسام السياسي الدرزي – الدرزي مع تقدّم السنين، حتى وصل بهم الأمر الى تعيين شيخين، هما: الشيخ رشيد حمادة والشيخ علي عبد اللطيف الى جانب الشيخ محمد أبوشقرا، بعد وفاة الشيخ محمد عبد الصمد. وفقاً لما قاله الباحث سعيد أبو زكي لنداء الوطن.

 

توفي الشيخ علي عبد اللطيف، ثم توفي الشيخ رشيد حمادة في 14 نيسان 1970، وكان قد اتفق الزعيمان كمال بك جنبلاط والأمير مجيد أرسلان على وحدة مشيخة العقل بعد وفاة شيخين. فاستمرّ الشيخ محمد أبوشقرا بمهام مشيخة العقل منفرداً حتى وفاته في العام 1991.

 

بعدها، شغل المنصب بالتكليف الشيخ بهجت غيث، وكما أسلفنا سابقاً، بالرغم من التباينات الواضحة بينه وبين المرجعية السياسية الأقوى على الساحة الدرزية، بقي في المنصب لحين إقرار قانون تنظيم شؤون طائفة الموحدين الدروز في العام 2006.

 

القانون المذكور، لم يعط الشيخ غيث حقّ الاستمرار في المنصب، فانتُخِب وفقاً للقانون الجديد القاضي الشيخ نعيم حسن في الخامس من تشرين الثاني 2006، لتبدأ مرحلة جديدة من الانقسام.

 

يعطي القانون الجديد حقّ انتخاب شيخ العقل للمجلس المذهبي، وهذا ما لم يرُق للأمير طلال أرسلان. فجمع مؤيديه من المشايخ، وأعلن عن تعيين الشيخ ناصر الدين الغريب شيخ عقل يمثل شريحة مناهضة للقانون الصادر حديثاً (في حينه). فعاد الدروز الى زمن ثنائية مشيخة العقل من جديد.

 

الإنتصار للعرف أو للقانون

 

في 22 نيسان 1949، بعد صدور قانون تنظيم الأحوال الشخصية الدرزية بعام واحد، وجّه الشيخ محمد عبد الصمد رسالة للمشايخ، يدعوهم للاجتماع في مقام الأمير السيد عبدالله التنوخي في عبيه لاختيار شيخ عقل ثانٍ خلفاً للشيخ حسين طليع. خاطبهم: «إخواننا أبناء الطاعة المشايخ المحترمين». ليذيع بعده كمال جنبلاط بياناً موضّحاً فيه موقفه من هذه القضيّة، تاركاً الأمر لشيوخ الدين باختيار من يشاؤون لهذا المنصب. ويوم اللقاء في 29 نيسان، خاطب الأمير عادل أرسلان المشايخ المجتمعين قائلاً: «بما أن انتخاب شيخ العقل من اختصاصكم يا رجال الدين، فعليكم أن تنتقوا الأفضل حسب ضميركم ووجدانكم، وعلينا نحن تنفيذ رغبتكم» هذا ما نقله لنا أبو زكي عما ورد في مجلّة الضحى (لم يحدد تاريخ الإصدار أو العدد).

 

هذه التصريحات والدعوات الصادرة عن المرجعيات الروحية والسياسية آنذاك، كانت دليلاً تاريخياً دامغاً لبعض المشايخ بأن اختيار شيخ العقل من اختصاصهم فقط دون العودة الى المرجعيات السياسية. فيما اقتصر لوم الأطراف السياسية الأخرى على عدم الأخذ بآرائهم. فتم تعيين الشيخ ناصر الدين الغريب في العام 2006.

 

بقي المرجع الروحي الأعلى للطائفة، الشيخ أبو يوسف أمين الصايغ فوق كلّ التجاذبات. فبالرغم من التباعد الحاصل بينه وبين وليد بك جنبلاط، وعدم تأييده لأي انتخاب يتم من خارج الوسط الديني، لكنه عمل وما زال يعمل جاهداً لتوحيد مشيخة العقل، حيث قال في مقابلة لنداء الوطن بتاريخ 14/1/2023 أجراها الباحث سعيد أبو زكي، أنه طلب من الشيخ ناصر الدين التخلي عن لقبه في العام 2007 حرصاً على وحدة الطائفة، وقد طلب منه تحديداً كون الشيخ نعيم حسن يحظى باعتراف رسمي بموجب القانون، لكنه للأسف لم يستجب. وتابع: «أكرر له دعوتي اليوم».

 

الشيخ أبو داود منير القضماني، إحدى المرجعيات الروحية العليا، قال لنداء الوطن، إن الرئاسة الروحيّة لطائفة الموحدين الدروز تعتبر امتداداً للإمامة، لذلك يجب أن تكون محصورة بشخص واحد. والأفضل أن تكون موحَّدة على مستوى العالم. لكن هذا التعدّد الناتج عن تقسيم الدول، لم يؤثر سلباً على مقام مشيخة العقل، بل ساعد على الاهتمام بشؤون أبناء الطائفة في كل دولة. مع التأكيد على ضرورة التنسيق بينهم في ما يتعلق بالشؤون الدينية ومصالح الناس بعيداً عن السياسة، فلكل دولة خصوصية مواطنيها.

 

وعن رأيه بمشيخة العقل بصورتها الحالية، قال، قبل قيام لبنان ككيان سياسي، كان يتم انتخاب الشيخ الأكثر ورعاً وإلماماً بشؤون الدين، أما بعد ذلك وقد فرضت السياسة نفسها، بات يتوجب على شيخ العقل أن يكون ملماً بالسياسة وبالعلوم الدنيوية وأن يتمكن من إدارة المجلس المذهبي بجدارة كمؤسسة عامة. فشيخ العقل بات محكوماً بإدارة الشؤون الدينية والدنيوية للطائفة.

 

أما عن المرجعيّة الدينية العليا، فأكد أن جميع المشايخ، بمن فيهم مشايخ العقل يجب أن يدينوا بالولاء للمرجعية الروحية الأعلى، والمتمثلة اليوم بالشيخ أبو يوسف أمين الصايغ.

 

في دولة القانون الحكم للقانون

 

«بحكم القانون، في لبنان شيخ عقل واحد، هو الشيخ المنتخب من قبل أعضاء المجلس المذهبي، وهو الذي يستلم الختم الرسمي للمشيخة، ويزاول مهامه في المقرّ الرئيسي، ويتابع كل ما يدخل ضمن اختصاصه من شؤون الطائفة».هذا ما أكده أمين سرّ المجلس المذهبي لطائفة المسلمين الموحدين الدروز المحامي نزار البراضعي.

 

وعن اختلاف المهام بين مشيخة العقل ورئاسة المجلس المذهبي، قال إن الفرق بينهما كبير رغم ترابط الأدوار، ففي الأولى يرتبط المقام بالشيخ بشكل شخصي حيث يمثل قيمة معنوية، ويمارس الصلاحيات الدينية ويسعى الى توحيد الكلمة ولم الشمل. أما في الثانية، فدوره مؤسساتي، فالمجلس المذهبي يُعنى بإدارة شؤون الطائفة على الصعيد الاجتماعي والثقافي وإدارة الأوقاف وما الى ذلك. وقد تعمَّد المشرع أن يكون شيخ العقل هو رئيس المجلس المذهبي لترابط الأدوار كما أسلفنا.

 

أما عن الانقسام الحاصل في مشيخة العقل، فبرأيه، أن التباينات لا تتعدى التفاصيل السياسية البسيطة، ولا تؤثر إطلاقاً على المهام الرئيسية، خصوصاً في ظلّ تفاهم دائم وتاريخي على العناوين الدينية والروحيّة. وللهيئة الروحية العليا الدور الأكبر والأبرز في إرساء مفاهيمها، لذلك فإن مشايخ العقل دائمو الحرص على مشورتهم، ليستخلصوا معاً الرأي السديد المتعلق بالمصالح العليا للطائفة.

 

 

الشيخ المنتخب والشيخ المعيّن

 

ولدى سؤاله عما إذا كانت خطوة أولى على طريق توحيد مشيخة العقل، أجاب «أن المشيخة موحدة بحكم القانون، وما ينقصنا هو لم الشمل وتوحيد الكلمة بين جميع المراجع السياسية والدينية الدرزية، وهذا يعالج بالسياسة، أما توحيد مشيخة العقل فقد حسمها القانون».

 

نصل في الخلاصة الى سؤال لا بدّ منه، شيخ منتخب وفق القانون وبشبه إجماع دينيّ، وآخر معيّن دون صلاحيات من مرجعية سياسية لا تحظى بإجماع درزيّ. في دولة القانون هل الحكم للزعامة أو للقانون؟