تشكل «المناطق المتنازع عليها» في شمال العراق مادة السجال الرئيسة في قضية الاستفتاء الذي يُزمع أكراد العراق إجراءه في 25 الشهر الجاري. وليست كركوك وحدها المعنية بعبارة «المناطق المتنازع عليها»، فثمة سجال أيضاً على أقضية وبلدات في سهل نينوى وغيرها. والحال أن عيش الأكراد القسري في الدول التي تقاسمت بلادهم سيجعل من عبارة «المناطق المتنازع عليها» بوصلة النزاع العربي الكردي في كل من العراق وسورية، فثمة «مناطق متنازع عليها» تلوح في سورية أيضاً، وفي الأخيرة يبدو أنها أشد تعقيداً من نظيرتها العراقية.
نحو قرن من محو الحدود الجغرافية والسياسية والاجتماعية بين جماعتين قوميتين، وفي ظروف قهرية، خلق خلافاً على كل مدينة ومحافظة وقضاء. الأسماء أيضاً متنازع عليها، بين أربيل وهولير، والقامشلي والقامشلو، وعين العرب وكوباني، ورأس العين وسركانية. وعملية الإذابة القسرية والقهرية للحدود نجمت عنها تراكيب اجتماعية وسياسية تقشعر لها الأبدان. ثمة «مستوطنات» عربية في المناطق الكردية في سورية، ونظيرات لها في العراق، وتحديداً في كركوك. والأخيرة تعاني من معضلة أخرى، ذاك أن التركمان يقولون إنها «قدسهم» أيضاً وإنهم القومية الغالبة فيها، وهم يستعينون على ذلك بحقائق لا تخلو من متانة ومن صحة. ويستعين العرب في سجالهم الأكراد بالرواية التركمانية، وهم بذلك يؤجلون السجال مع التركمان حول «عروبة كركوك».
قرن من «البعث» لن نشفى من تبعاته بسنوات. نعم قرن من البعث، لأن الأخير سبق نفسه إلى وعينا، وهو وان سقط في العراق، مستمر في تغذية خيال استحواذي ومن ميل لدى معظمنا لقضم الثقافات والقوميات. والغريب أن «البعث» لم يبق عربياً، فهو تسلل إلى وعي القوميات التي أُخضعت، فثمة «بعث» كردي أيضاً، يمكنك أن تسترق السمع إلى صوته في قضية التركمان في كركوك وفي روايات إيزيديين عن هويتهم القومية.
أما النسخة الجديدة من البعث، فهي «البعث» الشيعي في العراق، ذاك أن لغة السجال الشيعي الكردي حول الاستفتاء كشفت عن أن صدام حسين عارض طبيعي في الوعي الاستحواذي، فهذا الوعي مؤسس على ما هو أمتن وأعم من العصبية التكريتية التي انتهى إليها نظام البعث الصدامي. ثمة صدام صغير يقيم في وعي معظمنا، ينام ويستيقظ عند كل محطة، ويمكنك أن ترصد أثره في صوتك حين يرتفع معلناً الحق في مدينة أو تاريخ أو حتى قصيدة.
سنوات الخصومة بين شيعة العراق وصدام حسين جرى خلالها تماه بين الضحية والجلاد، فتسللت لغة الجلاد إلى وعي الضحية، واليوم لا تملك الأحزاب الشيعية في مواجهة الاستفتاء الكردي إلا تلك اللغة لتدفع عبرها الخطر الذي يهدد «وحدة العراق».
والضحية لم تكن شيعية فحسب، فهي كردية أيضاً، ويلوح في الوعي القومي الكردي صدام ما. القول بغير ذلك لا يبدو منطقياً، إذ إن الأكراد عاشوا في ظل البعث مثلما عاشت الجماعات العراقية الأخرى، وزعم الحصانة «الثقافية» الصادر عن نخب كردية، ينطوي على ادعاء قوموي بعثي بدوره. فنقاء «الثقافات» مقولة القوميين الدائمة، ولا يؤمل منها سوى المزيد من الاستحواذ والقضم والاحتلال. في تاريخ كل جماعة مزاج جور وتزمت، والجماعة الضحية عرضة لهذا المزاج أكثر من الجماعة الممارسة هذا الجور.
الأكراد على أبواب استفتاء حول استقلال إقليمهم في العراق. ومرة أخرى، الوقوف إلى جانبهم في حقهم في تقرير مصيرهم، يجب أن يوازيه انحياز موازٍ. استعادة الحق يجب أن تكون تمريناً قومياً على قبول حقوق الآخرين. أمام الأكراد مهمة شديدة التعقيد في أعقاب استقلالهم. ثمة حقوق كثيرة في محيط تجربتهم ودولتهم العتيدة. هم بصدد دولة فيدرالية تعددية على ما يقولون. قرن القول بالفعل يحتاج إلى شبه معجزة في منطقتنا، لكن الفشل سيكون مصير عدم الالتزام بهذا الوعد. وحينها سنكون أمام تجربة حزب البعث الكردي الاشتراكي.