الحكومة واجهة لـ «مجلس مُصغّر» يُمسك بالقرار… والسنّة والدروز خارج المعادلة الوطنية
لا يُنظر إلى قرار المدّعي العام المالي علي إبراهيم وضع إشارة «منع التصرّف» على أصول عشرين مصرفاً من أقوى المصارف ورؤساء مجالس إدارتها، إلا بوصفه قراراً سياسياً يقف وراءه رئيس مجلس النواب زعيم حركة «أمل» نبيه بري شريك «حزب الله» في «الثنائية الشيعية» التي تُمسك بالحكم الفعلي للبلاد، بشكل شبه مطلق، منذ الإتيان برئيس الحكومة حسان دياب إلى سدّة الرئاسة الثالثة. بري كان حمّل المصارف مسؤولية خسارة لبنان لنسبة 75 في المئة من الدين (سندات اليورو بوند)، رافعاً لواء الرفض التام لدفع استحقاقات الدولة من الديون السيادية، على أنه يعكس قراراً وطنياً جامعاً عبّرت عنه مشاركة غالبية الكتل النيابية في «لقاء الأربعاء». جاء قرار إبراهيم في اليوم التالي ليُشكّل انعكاساً لموقف بري الذي يُحسب المدّعي العام المالي عليه في نظام المحاصصة. ولن يُغيّر نفي بري شيئاً من التقييم السياسي لمآلات هذه الخطوة الملتبسة في توقيتها وخلفياتها ومراميها، ولن يُخفف تجميد أو استرداد المدّعي العام التمييزي للقرار ومفاعيله من الأضرار التي وقعت.
الإدارة الخاطئة للمصارف في حق المودعين وعملية الذل المستمرة للناس على أبواب البنوك هي عوامل مساعدة في تأليب الرأي العام عليها، وجزء من الحراك الشعبي مُعبّأ في هذا الاتجاه، لكن قرار إبراهيم الذي يُعتـبَر سابقة قضائية في النظام الاقتصادي الحرّ شكّل ضربة إضافية لسمعة القطاع المصرفي المهزوزة أصلاً، إذ ستبرز انعكاساته سريعاً على البنوك الأجنبية المراسلة التي ستتردد في التعامل مع المصارف اللبنانية، ما سيُؤدي إلى مزيدٍ من تعطيل المعاملات المصرفية ومن آلية عمل النظام المصرفي، ويزيد من حال «اللاثقة الخارجية» به وبالاقتصاد الوطني، في وقت يحتاج فيه لبنان إلى إرسال مؤشرات إيجابية للدول العازمة على مساعدته وللمؤسسات الدولية.
الاقتناع السائد يميل إلى أن البلاد تغرق أكثر فأكثر في مستنقع الانهيار الكلي. فحكومة حسان دياب ليست سوى واجهة لمجلس مُصغّر يضمّ «الثنائي الشيعي» و«التيار الوطني الحر» و«المردة»، يتّخذ القرارات الأساسية ويترك لها ولرئيسها تخريجها. اللافت أن مراقبين محسوبين على رئيس الجمهورية يتحدثون عن غياب مؤثر له ولتياره، ويعتبرون أن الإدارة الحالية هي لـ «الثنائي الشيعي». ويذهب البعض الآخر من المتابعين إلى الحديث عن غياب دياب نفسه عن دائرة القرار هذه. لا شك أن ثمّة اختلالاً كبيراً في المعادلة الوطنية حيث السنّة أضحوا خارج القرار الوطني ومعهم الدروز.
التيار الوطني الحر بين خيارين أحلاهما مرّ لحماية مصالحه: الالتصاق بـ «حزب الله» أو الامتثال لواشنطن… والبحث جار عن الضمانات
الخلل سيزداد في ظل رئيس حكومة «اللون الواحد»، الضعيف سياسياً، وغير المدعوم وغير المُحتضَن من بيئته. فصورته مع «اللقاء التشاوري» التي تضمّ سنّة «8 آذار» لملء هذا النقص تبقى مبتورة. هو يُدرك مكمن أزمته، فيرمي السهام نحو زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري، بوصفه الممثل السياسي الأبرز للسنّة، من دون أن يُسمّيه. لن يستطيع دياب أن يُوقف الانهيار، ليس لأن الحريري و«أهل البيت» يُعرقلون، بل لأن أجندة الحلفاء الذين أتوا به مختلفة عن أجندته. سيتيقّن قريباً أنه من غير المسموح له راهناً التعامل مع صندوق النقد الدولي. وقد أعلن «حزب الله» على لسان نائب الأمين العام نعيم قاسم ذلك. ولن يُعطى الضوء الأخضر لطلب مساعدة «الصندوق» إلاّ بعد الانهيار الكلي، ودخول البلاد في فوضى سياسية واقتصادية واجتماعية ومالية ونقدية قاتلة.
التسليم بالدخول في برنامج «الصندوق» يعني أن مزاريب الفساد ستُقفل تباعاً، ولكل من القوى السياسية التي كانت متنفذة والتي لا تزال متنفذة مزاريبها. تخلّي «التيار الوطني الحرّ» عن مقاربته في ملف الكهرباء هي المعبر الضروري لسقوط «محميات المحاصصة» في غالبية القطاعات، وبداية الإصلاح في قطاع الكهرباء هي المؤشر لبداية فتح الطريق أمام كبح الهدر والسرقات المقوننة. سيلي الكهرباء أو يُرافقها كبح التهريب عبر المرفأ والمطار والمعابر البرية وضبط الجمارك. فهذه المرافق تُشكّل مورداً مالياً بملايين الدولارات لـ«حزب الله» وحلفائه. الأمر مُماثل في الاتصالات والمحروقات والغاز وشركات النفايات وغيرها التي ترفد شركاء المحاصصة الآخرين بما تيسَّر لهم.
فالأمور مرهونة الآن بحجم قدرة القوى المستفيدة على مقاومة الإصلاحات المطلوبة لبدء عملية الإنقاذ، ومتى ستُسلّم بها. الاعتبارات هنا لا تتعلق بمصلحة لبنان واللبنانيين بل بما ستؤول إليه محادثات تجري خلف الكواليس عن المدى الذي قد تصل إليه المساءلة مستقبلاً عن ملفات هدر السنوات الماضية، وما إذا كان التنازل سيجرّ إلى مزيد من التنازلات، وما هي ماهية الضمانات. ففي وطأة المواجهة الأميركية – الإيرانية المفتوحة على مصراعيها، سيستمر الضغط على لبنان، ليس فقط من بوابة العقوبات على «حزب الله»، بل على حلفائه المسيحيين أيضاً، الذين تعلم واشنطن مواطن انزلاقهم.
لا يُبالغ بعض المتابعين في وصف حالة الذعر والقلق التي تنتاب «التيار العوني» والذي وجد نفسه بين خيارين أحلاهما مُـرّ: خيار البقاء على التصاقه بـ«حزب الله» لحماية مصالحه، أو مجاراة أميركا للحفاظ على جزء من تلك المصالح، والنفاذ من الأسوأ. الحديث عن الآخرين من القوى الذين يُصنّفون في خانة حلفاء الولايات المتحدة لا يستقيم كثيراً، ما دام هؤلاء قد اختاروا «ربط النزاع» مع «حزب الله» واتخاذ موقف الحياد في المواجهة الدائرة، كل لحساباته.