تتعرّض الثورة الإيرانية لمواجهة غير مسبوقة منذ نشأتها، إذ للمرّة الأولى قد تكون أمام تحدٍ من طبيعة وجوديّة، ولكن هل إنهاء الثورة يضع حداً للقوة الشيعية في المنطقة؟
ساهمت تطورات عدة، وتحديداً أحداث 11 أيلول 2001 وردّة فعل الولايات المتحدة الأميركية باجتياحها أفغانستان والعراق وتركيزها على الإرهاب السنّي في فتح المجال واسعاً أمام تمدّد الثورة الإيرانية بنحو غير مسبوق منذ انطلاقتها عام 1979، مستفيدة من كسر الحاجز الجغرافي ومن وضع واشنطن الدول السنّية تحت مجهر الضغط والتركيز، وقد تزامن التمدّد الإيراني الإقليمي مع تطوير طهران للسلاح النووي.
فالدور الإقليمي الإيراني لم يتوسّع إلّا نتيجة القرار الأميركي غير المدروس بإسقاط صدام حسين، واستغلال طهران إنشغال واشنطن في التركيز على الدول العربية والسنّية تحت عنوان «نشر الديمقراطية وتعميمها» من أجل مكافحة الإرهاب، فشكّلت الرافعة والمركز لقوى خرجت من رحمها او حليفة لها، مفتتحة حقبة جديدة في المنطقة عنوانها الدور الإقليمي الإيراني في مواجهة الدول العربية والسنّية التي لا تبحث عن مواقع نفوذ ولم تنجح في تشكيل تحالف عربي يضع حداً للتمدّد الإيراني، بل تمّ اتهامها برعاية إرهاب هي المتضرّر الوحيد منه لجهة صورتها ودورها.
والكلام عن ثلاثة أدوار إقليمية على حساب الدور العربي غير دقيق، لأنّ قوة تركيا او إسرائيل نابعة من قوة هذه الدول العسكرية والذاتية، فيما لا مواقع نفوذ لهما على غرار مواقع النفوذ الإيرانية داخل أكثر من عاصمة عربية بدءاً من التأثير في القضية الفلسطينية التي شكّلت عصب القضايا العربية والإسلامية، مروراً بلبنان وسوريا والعراق واليمن، ووصولاً الى تحريك الرأي العام العربي والإسلامي تحت عنوان المقاومة.
وثمة من يتحدث عن انّ القرار الأميركي بتمدّد النفوذ الإيراني لم يكن عفوياً، بل كان عن سابق تصور وتصميم من أجل حرف الأنظار عن العدو التاريخي للعرب والسنّة، اي إسرائيل، وتوجيه الأنظار نحو عدو جديد وهو إيران، وذلك تمهيداً لسلام عربي – إسرائيلي، وهذا دون إسقاط نظرية انّ دينامية الأحداث قادت الى هذه النتيجة بعيداً من منطق المؤامرة ومراكز الأبحاث التي تخطط لعقود وأجيال.
فردّة الفعل الأولية على أحداث 11 أيلول جاءت إنتقامية بإسقاط «طالبان» وصدام، وفتحت المنطقة على نزاع سنّي – شيعي وتوازن إيراني-عربي. وعندما أيقنت واشنطن خطورة امتلاك طهران للسلاح النووي وضعت كل ثقلها لمنعها من امتلاك هذا السلاح، ولكنها أهملت الدور الإقليمي لإيران، فيما الحلّ النووي جاء ليعزز هذا الدور، فجاءت الإدارة الأميركية الأخيرة بمشروع جديد للمنطقة يُدخل رئيسها التاريخ من بابه الواسع وعنوانه السلام العربي – الإسرائيلي، واعتبرت انّ اللحظة أكثر من مؤاتية لتسديد ضربتها: تسليف العرب إنهاء الخطر الإيراني، مقابل انفتاح عربي على سلام مع تل أبيب، يفتح المنطقة على مرحلة جديدة وعصر جديد.
وثمة من يقول ايضاً إنّ ما اصطلح على تسميته «صفقة القرن» ليس عنواناً فارغاً من أي مضمون، بل خطة معدّة بإحكام وبتنسيق مُسبق مع تل أبيب وبعض عواصم القرار العربية، بمعنى انّها ليست إرتجالية، بل خطة مدروسة وأولى ترجماتها بدأت مع نقل السفارة الأميركية الى القدس.
ولكنّ الثابت في كل المشهد، انّ المنطقة على مسافة خطوات قليلة من عصر جديد، ولا مؤشرات الى قدرة إيران هذه المرّة على تعطيل هذا المسار، الذي أيقنت واشنطن انّه لا يمكن بلوغه من دون محاصرة قوى الاعتراض وفي طليعتها طهران. والفارق الأساس بين «صفقة القرن» و«أوسلو» و«مدريد» انّ إيران محاصرة وفي أضعف لحظة تاريخية، وانّ المناخ العربي الدولتي والشعبي مؤآتٍ لخطوة من هذا النوع، ومن هنا صعوبة إعادة الأمور إلى المربّع الأول.
والتمدّد الذي تقوده إيران في المنطقة ليس تمدّداً عادياً لدولة تبحث عن مواقع نفوذ بالاتكاء على الحضور الشيعي وتحت سقف الأنظمة الموجودة، إنما من طبيعة أيديولوجية، يرمي الى تعميم نظام ولاية الفقيه وإقامة الدولة الإسلامية وإزالة إسرائيل من الوجود، اي إبقاء المنطقة في نزاع أزلي وأبدي.
ومن الصعوبة على إيران ان تبدِّل في دورها من ساعٍ الى تغيير وجه المنطقة والدول وإرساء أنظمة جديدة على قواعد دينية وايديولوجية، إلى الاكتفاء بمواقع نفوذ عادية.
ولكن طهران فشلت عملياً في تقديم نموذج واحد خارج الحدود الإيرانية، فيما النموذج الإيراني نفسه لن يستطيع الصمود طويلاً في مواجهة حاجة الشعب الإيراني الى دولة طبيعية، وان يعيش كفرد على غرار أي مواطن في هذا العالم.
فالدور الثوري الإيراني شارف على الانتهاء بفعل عدم قدرته على تعميم هذا النموذج، وبفعل وصوله الى الحائط المسدود مع القرار الأميركي بإنهاء هذا الدور.
ولكن هل إنهاء الدور الثوري يعني عودة الشيعة الى القمقم؟ فعلى رغم من صعوبة التحوّل والتخلّي عن الخلفية الأيديولوجية المتحكّمة بالمشروع الإيراني التوسعي، إلاّ انّ البراغماتية الإيرانية لن تسمح بانفجار إيران من الداخل ولا بحرب وانتحار، إنما ستترك الأمور تصل الى حدود حافة الهاوية قبل ان تستعيد التقاط اللحظة بالانخراط في تسوية تضعها تحت سقف الشرعية الدولية وتحافظ فيها على ماء وجهها العقائدي ونفوذها ولو بحلّة أخرى في دول الجوار.
وهذا لا يعني انّ خطر وقوع الحرب غير قائم، وانّ إيران لن تحاول استخدام كل الطرق والوسائل لمنع تغيير «الستاتيكو» الحالي وتفويت «المومنتوم» على الإدارة الأميركية، ولكنها في حال لم تنجح، ونسبة نجاحها لا تتجاوز الـ3 في المئة، فإنها ستضطر إلى التأقلم مع الواقع الجديد، وبالتالي ستجلس حول طاولة المفاوضات لتحسين شروطها في المرحلة الجديدة.
ومن ثوابت المشهد الحالي أو الجديد، ان لا عودة للمارد الشيعي الى داخل القمقم. فهو خرج منه ولن يعود إليه، وإنهاء الدور الثوري الإيراني لا يعني إنهاء الصحوة الشيعية ولا النفوذ الإيراني، الذي سيدخل في المرحلة القليلة المقبلة في حقبة جديدة.