في العادة تكون العلاقة بين حزب الله والتيار الوطني الحر مغطاة بالطابع الاستراتيجي، لكنها بدت في الأيام الأخيرة وكأنها محصورة بالتكتيك الداخلي، ما يشكل سابقة في العلاقة بين الطرفين
إذا كان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لم يعلم ببيان وزارة الخارجية حول الموقف من الحرب الروسية في أوكرانيا، فإن تصويت لبنان في الجمعية العامة للأمم المتحدة تم، رسمياً، باتفاق بين عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي في حضور وزير الخارجية عبدالله بوحبيب. ولا يمكن لأي ذرائع تتعلق بعمق العلاقات التاريخية مع روسيا أن تحجب واقعة أن عون أظهر، في موقف لبنان الرسمي الأخير، أنه كان يعلم، ويعلم جيداً، فحوى بيان الخارجية الأول.
لكن المفارقة ليست في موقف عون وحده، بل في ما سيكون عليه موقف حزب الله وحلفائه الذين يؤيدون الدور الروسي في سوريا وينحازون إلى موسكو في الحرب مع أوكرانيا، حتى عبر استخدام مصطلحات تفنّد أهداف الحرب الروسية وتبرّرها، لأن موقف حزب الله – في العمق – ينفصل كلياً عن موقف العهد والتيار الوطني الحر استراتيجياً، في موضوعي الحرب الروسية والترسيم البحري. نادر هذا الاختلاف الذي كان عادة يُعطى كتبرير لبقاء التفاهم بين الطرفين وإن اختلفا في ملفات داخلية. ففي السابق كان الاتجاه المشرقي وحلف الأقليات وتغطية تدخل الحزب في سوريا ومواجهة التكفيريين تعطي للعلاقة بين الطرفين بعداً إقليمياً يطغى على خلاف الانتخابات والتعيينات والمياومين. ذهب العماد ميشال عون إلى براد ودمشق تحت هذا المسمى، وساند حزب الله في حربه في سوريا وضد التنظيمات الأصولية من هذه الزاوية. وتحت هذا السقف، كان التيار يمتلك حرية الحركة في معارك داخلية حتى لو طاولت الرئيس نبيه بري، ما دام يقف إلى جانب حليفه في معاركه الإقليمية والدولية.
لكن الأيام الأخيرة أظهرت أن الحزب ابتعد خطوات إلى الوراء في الاستراتيجيا، وإلا ما معنى أن يصوّت لبنان رسمياً مع القرار الدولي، بضغط أميركي واضح ومعروف، ولا تقوم القيامة كما جرت العادة في أمور أقل تأثيراً كجولات السفيرة الأميركية في عكار أو البقاع؟ وما معنى أن يعترض رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد، باسم الحزب، على الترسيم البحري، فيردّ رئيس الجمهورية المصرّ على التفاوض متمسكاً بالخط 23 بأن الرئاسة خارج دائرة الاستهداف. فيما الحزب وغيره يعرفان تماماً فحوى الاتصالات والرسائل المتبادلة مع العهد والتيار الوطني الحر في موضوع الترسيم والحرب الروسية. وحين تقف المشرقية الدينية والاقتصادية عند حدود التخلي عن روسيا، بناء على اتصالات أميركية، ويغضّ الحزب النظر، فهذا يحمل دلالات أكبر من أن تكون مجرد هفوة ديبلوماسية. كل ذلك يثير التساؤلات حول مفهوم الاستراتيجيا الذي تكرست غلبته لسنوات، لكنه انحسر أمام التكتيك الداخلي، والأهم الانتخابي. فتصويت لبنان مع القرار الذي يدين الهجوم الروسي على أوكرانيا جاء متزامناً مع كلام الحزب حول الانتخابات والترشيحات. وفي هذا الكلام كثير من النقاط التي تؤشر للعلاقة بين التيار والحزب.
في الكلام الانتخابي لحزب الله، تفاصيل كثيرة يمكن التوقف عندها، من جزين إلى البقاع وبعبدا. لكن تأكيد تسمية حزب الله لمرشحه للمقعد الشيعي الحزبي في جبيل، يسلط عليه الضوء في صورة أكبر نظراً إلى ما سبق. فبعد أربع سنوات من الدورة الانتخابية الأخيرة، بدا أن الحزب لم يهضم وقوف التيار الوطني ضده في ترشيحه الشيخ حسين زعيتر، وذهاب التيار إلى ترشيح ربيع عواد. والتيار الذي أصر في حينه على «خصوصية» دائرة جبيل – كسروان، وعدم خلق نواة استفزازية، في دائرة تحتدّ فيها عوامل الدين والسياسة والعائلية، بات اليوم أسير وضعه الداخلي الخاص في انتخابات ترخي بثقلها على مستقبله السياسي. وهو مستعد لأكثر من تدوير الزوايا كما فعل داخل التيار، وسيفعله خارجه، من أجل ضمان ترتيبات داخلية تتعدى الانتخابات الحالية إلى تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات ومن ثم الاستحقاق الرئاسي. وعلى الطريق، يسعى كي يمسك العصا من نصفها بين متطلبات واشنطن والحفاظ على ماء الوجه مع موسكو. لذا يصبح إعلان حزب الله مرشحه في جبيل تفصيلاً في«المعركة الكبرى». لكن التيار يدرك في دوائره صعوبة تمرير الترشيح الحزبي من دون ارتدادات في منطقة جبيل مهما بلغت درجة الالتزام الحزبي. فمهما قيل في مواقف التيار الإعلامية والترويج لتحالف التيار والحزب في كل المناطق كجزين وبعبدا، ولهما خصوصية مختلفة، فإن القاعدة العونية لا تستسيغ كثيراً ترشيح حزب الله مرشحه، كما فعل في عام 2018.
يسعى التيار لإمساك العصا من نصفها بين متطلبات واشنطن والحفاظ على ماء الوجه مع موسكو
وهذا الكلام لا علاقة له بقوى 14 آذار ولا بكلام شخصياتها. الكلام الانتخابي الدعائي يختلف عن وقائع الميدان والقرى والبلدات، والخصوصيات التي تتحكم فيها. ويدرك الحزب أن الصورة الحقيقية للناخب المسيحي في جبيل وكسروان تختلف تماماً عن الصورة التي تقدمها ماكينة التيار الانتخابية الدعائية. كما أن التيار يدرك أن من الصعوبة إقناع جميع الناخبين العونيين والدائرين في فلك التيار بأن التحالف الانتخابي مع حزب الله وحركة أمل، في جبيل، يوازي أهمية التصويت إلى جانب «المحور الغربي» ضد الهجوم الروسي. لكن إذا كانت هذه هي حسابات التيار الانتخابية والرئاسية، فما هي حسابات حزب الله في ملفي الترسيم والحرب الروسية، خصوصاً أن كليهما مفتوح على احتمالات كثيرة، سيضطر لبنان، ومعه حزب الله، إلى التعامل معها في شكل غير ملتبس. فهل لمقعد جبيل كل هذه الأهمية؟