Site icon IMLebanon

عون وجعجع خارج التسوية

 

ما أن انتهى عهد الرئيس ميشال عون حتى انقلبت موازين القوى بين الطوائف رأساً على عقب. وفي عبارة أوضح، ظهر المسيحيون مرّة أخرى في الموقع الأضعف.

خلال عهد عون، كانت تبدو السلطة وكأنّها قائمة على ثنائية الشيعة – المسيحيين، حيث يبدو السنّة هم الضلع الثالث الأضعف. وبانتهاء العهد وبدء الفراغ الرئاسي، ظهرت مجدداً ثنائية الشيعة – السنّة على مستوى السلطة، فيما المسيحيون هم الأضعف.

 

في الحالين، هناك دائماً طرفان قويان، وثالث ضعيف. والأحرى أنّ الطرف الثابت على قوته هو الشيعي، فيما الآخرون يتقلّبون تبعاً للظروف. بل إنّ على المسيحي أو السنّي أن يسعى إلى التحالف مع الشيعي ليحجز مكاناً له كشريك ثانٍ له السلطة. وإذا تخلّى الشيعي عن هذا الشريك، يعود إلى الموقع الضعيف.

 

في العام 2016، جاء عون إلى الحكم بقوة «حزب الله»، ومارس الحكم لـ6 سنوات متمتعاً بهذه القوة. فبقي الشريك المسيحي في السلطة، طوال العهد، هو الثاني في القوة بعد الشيعي، فيما استقرّ الشريك السنّي في الموقع الثالث. لكن القوة جُيِّرت لعون وفريقه السياسي تحديداً، لا للمسيحيين.

 

فمنذ اللحظة الأولى لوصول عون إلى السلطة، بدا الشريك السنّي يومذاك، الرئيس سعد الحريري، في موقع الأضعف. واضطر إلى سلوك النهج الذي يريده «الحزب» وحليفه المسيحي. وهذا الأمر تسبّب له بمزيد من الأزمات لدى المملكة العربية السعودية، الحليف التقليدي لتيار «المستقبل» والداعم الأساسي للمكوِّن السنّي في لبنان.

 

حاول السعوديون دفع الحريري إلى خارج هذا المسار، لكنه واقعياً كان عاجزاً عن القيام بذلك، لأنّه الأضعف في التركيبة. وقد حاول السعوديون إقناع الحريري بالاستقالة من منصبه، في خريف 2017، لإنهاء هذا الواقع. ولكن، سرعان ما عادت الأمور إلى مجاريها، وبقي الحريري وحكومته في كنف «الحزب» و»التيار»، لأنّه لا يمتلك المقومات الفعلية للخروج عنهما.

 

بل إنّ الحريري- أي الشريك السنّي- لا سواه، هو الذي دفع ثمن الانهيار بعد 17 تشرين الأول 2019، بسقوط حكومته، فيما بقي الشيعي والمسيحي آمنين في موقعيهما. وآنذاك، تمّ اختيار حسّان دياب رئيساً للحكومة، على رغم من عدم امتلاكه حيثية تمثيلية في الطائفة. وبعد انفجار المرفأ في آب 2020، طارت حكومته أيضاً لتتمّ الاستعانة بنجيب ميقاتي، فيما اضطر الحريري الأوسع تمثيلاً لطائفته إلى الخروج تماماً من الحياة السياسية، حتى إشعار آخر.

 

حتى اللحظة الأخيرة من العهد، بقي عون يتصرف من منطلق أنّه الأقوى في عملية تشكيل الحكومة الجديدة. وعلى الأرجح، بقي يعتقد أنّه سيحظى بدعم «حزب الله» خلال ولايته وبعد انتهائها. وهذا «الاطمئنان» هو الذي سمح له بممارسة المناورات، إذ اعتبر أنّ «الحزب» لن يتخلّى عنه وعن النائب جبران باسيل و»التيار الوطني الحر»، ولو خرج من قصر بعبدا.

 

لكن حسابات عون في الحقل لم تنطبق على حسابات «حزب الله» على البيدر. وفي أوساط «التيار»، هناك مَن يتحدث عن «غدر» تعرَّض له من جانب «الحزب»، إذ تركه وحيداً، بعدما استنفد «التيار» كل رصيده في القتال معه طوال سنوات، ودفع الأثمان دولياً وعربياً في الدفاع عنه.

 

فإذا كان باسيل مصاباً اليوم بعطب رئاسي، بسبب «الفيتو» الأميركي أو السعودي، فالأمر يعود حصراً إلى كونه منخرطاً في القتال مع «حزب الله»، فيما حافظ رئيس «المردة» سليمان فرنجية على صورته، بتجنّب «توريط نفسه» في شكل مباشر.

 

لكن البعض يقرأ الصورة بطريقة مختلفة. فما يجري اليوم في الواقع هو العودة بالتوازنات بين الطوائف إلى ما قبل عهد عون، أي إنّ إدارة البلد عادت اليوم إلى الثنائي الشيعي – السنّي. وللتذكير، هذا التوازن كان سائداً بعد اتفاق الطائف بدعم سوري. وبعد خروج سوريا في العام 2005، نشأ ما سُمّي «الحلف الرباعي»، الذي اعترض عليه المسيحيون إلى أن أبرم عون «تفاهم مار مخايل» مع «الحزب».

 

اليوم، يبدو الاستحقاق هو الآتي: هل قرّر «حزب الله» فرط التحالف والعودة إلى ما قبله، أي إلى «الحلف الرباعي» الذي هو تحالف بين القوى المسلمة – وينضم إليه القطب الدرزي وليد جنبلاط – لإدارة البلد؟

 

التحالف الرباعي كان يترجم عملياً تسوية إقليمية سنّية – شيعية، وما سُمّي في بعض المراحل «س ـ س»، أي السعودية – سوريا. ولاحقاً، بعد تراجع الدور السوري نسبياً، صارت الأولوية لتفاهم السعودية وإيران. فهل هناك اليوم فرصة فعلية لإقامة تحالف رباعي سنّي- شيعي- درزي، على غرار تحالف 2005، إذا لم يحصل تبريد في العلاقات السعودية – الإيرانية؟

 

المراقبون يعتقدون أنّ «حزب الله» يدرك أنّ لبنان لا يمكن أن ينهض في ظل «الفيتو» السعودي. ولذلك هو يفضّل حالياً تدوير الزوايا مع الجميع في الداخل. وكان لافتاً أنّ وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان الذي زار بيروت أخيراً، حرص على إبداء ليونة واضحة تجاه السعودية واستئناف الحوار معها.

 

وفي الانتظار، في بلد التقلبات والانقلابات الطائفية، واضح أنّ الشريك المسيحي سيعود في المرحلة المقبلة إلى خلفية الصورة، كما كان في 2005 وقبلها. وهذا يعني أنّ القطبين المسيحيين، عون والدكتور سمير جعجع، مرشحان للبقاء خارج التسوية التي يتمّ السعي إليها، والتي لم تتوافر ظروف نجاحها في أي حال.