عوّدتنا أمور هذا البلد على اثنتين: اختبارات تدخل فيها احدى مؤسساته الدستورية أو أكثر في فترة من الشلل أو التعطيل أو التفريغ أو تأجيل الاستحقاقات الانتخابية لآجال تقدر بالشهور العديدة أو حتى بالسنوات، واختبارات مختلفة عن هذا الصنف الأول، تبدو أقل وطأة، على الأقل ظاهرياً، فيرتفع في لحظة (واللحظة هنا لها مدة هي الأخرى، لنقل شهراً أو شهرين أو ثلاثة!) منسوب التوتر والاحتقان والتصبب والتشاؤم، وتبدو كما لو أنها لحظة مُطبقة على “السستام” السياسي اللبناني ككل، فيتبين من ثم أن الحمم البركانية المتطايرة المستشيطة ليست الا زبد البحر وهو يذهب هباء.. فيجري “استلحاق الأمور” بنكهة درامية، وتزف الى الأنام مقولة “ميثاقية” متجددة أو مستجدة، بدعوى أنها المقولة الهادية المنقذة “الحربوقة” التي أنقذتنا من شرّ ما بأنفسنا في اللحظة الحرجة، فيهز المعلقون على شاشات التلفزة رؤوسهم في اليوم التالي على هذا “الاستلحاق في ربع الساعة الأخير”، ويهنئون بعضهم بعضا وعموم الأمة بالسلامة وتفادي عواقب الأمور والنجاح في تليين المتصلّب وتقريب ذات البين والجمع بين الأضداد في قالب مرح من المجاملات، ليصار من ثم الى تنازع هوية “كاسب الجولة” الفعلي، الى ان تحين بوادر أزمة تصلّب شرايين جديدة، أو موسم تعطيل اضافي.
والحال هذه، تضيق مساحات الإمكان في البلد الى حد يحكمنا هاجس الاستفهام المتواصل عن أي اختبار من هذين الصنفين نمرّ فيه: نوبة تأزّم تنفّس أو تعطيل يمتد ويتمدّد. ينطبق هذا بشكل أكثر إلحاحاً بعد الاستحقاق الانتخابي ونتائجه وبدء عملية تشكيل الحكومة. فهل انه الآن ايضاً مسار يعج بالتوترات والاحتقانات لكنه يتمكن، على المنوال المشار اليه، من استلحاق نفسه في ربع الساعة الأخير، وتفادي الدخول في فترة مراوحة مزمنة، أو العكس؟
بالمطلق، ينبغي دائماً الافتراض ان الصنف الثاني من الاختبارات اللبنانية، حيث يتصاعد التأزّم بشكل حاد، فيظهر من بعد ذلك مناخ الحلحلة، له الأرجحية على الصنف الأول، حالات التعطيل المزمن، على كثرة هذه الأخيرة. بالتالي، الأخذ بعين الحسبان ان هذا السستام “خبير” باستلحاقات ربع الساعة الأخير ينبغي وضعه في المقام الأول، رغم ان المسار الآخر، أو التعطيل المزمن لمؤسسة دستورية، قد تجرّعناه أكثر من مرة في السنوات الأخيرة، وليس هناك أي مناعة هيكلية تضمن عدم تكرار الأمر، اليوم أو غداً، ولو أنه ليس بهذه السهولة، خاصة في هذه اللحظة، التالية مباشرة لانتخابات نيابية، فأقل الايمان ان يكون تشكيل حكومة بعد الاحتكام لصناديق الاقتراع أسهل وأسرع من تشكيلها ونحن على مسافة من موعد الاحتكام للصناديق، وان لم تكن الحال كذلك فلماذا الانتخابات من الأساس؟! لماذا كان هناك تنافس من الأساس؟!
في اللغة السياسية المرتبطة بتطور التجارب الدستورية التعددية، درج الحديث عن “لعبة المؤسسات”. فيُقال مثلاً انه على الفرقاء المتباينين ان يحتكموا الى لعبة المؤسسات الموضوعة قوانينها في كل من معايير القانون الدستوري من جهة، والنص الدستوري من جهة ثانية. في المقابل، جرى، منذ وقت مبكر على ولادتها، لكن بشكل يزيد عن كل حد في العقد الاخير، اخذ التجربة اللبنانية الى المقلب المختلف تماماً من هذه المعادلة. جرى التنظير لفكرة عدمية تماماً، مفادها ان البلد من الخصوصية بحيث لا يمكنه الانصراف الى “لعبة المؤسسات”، لأنه محكوم بما هو نقيض للّعب، محكوم بالجدية الميثاقية. المشكلة أنه في علم السياسة ليس هناك خيار ثالث في هذا الصدد: إما الانصراف الى لعبة المؤسسات، بما في ذلك إيجادها اذا كانت غائبة، وإما التلاعب بالمؤسسات نفسها، أي إلغاؤها تماماً إن كان لم يزل فيها رمق، وهو في نهاية التحليل ما يحدث، تراكماً، سواء علقنا بالصنف الأول من المحنة، التعطيل المزمن لإحدى المؤسسات أو لأحد الاستحقاقات، أو بالصنف الثاني منها، التأزّم المتصاعد فجائياً بشكل “كوارثي” ثم المنفرج في ربع الساعة الأخير. اللعب على الأعصاب، والانفعالات، و”التسلّي بالضجر”، درءاً للعبة المؤسساتية الصحيحة، ولا يعني الدرء هنا ان شروط هذه الأخيرة قائمة، أو القوى الحيوية ذات المصلحة في إنهاضها حاضرة. هي أساساً مغيّبة، لكن يجري الابتعاد عنها فوق ذلك أكثر فأكثر.