هل يتّجه العالم إلى مزيد من الاستقرار؟
الصور المبثوثة من قمّة سنغافورة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون، لا ريب أنها تدخل فينا شعوراً إيجابياً. ليس قليلاً بعد كل ما حصل. تسخين ترامبي في اللهجة والمناورات مع كوريا الشمالية، قوبل بأكثر من عملية اطلاق لصواريخ باليستية، بعضها من فوق ارخبيل اليابان، بل ضمن المياه الاقليمية الاميركية في هاواي. تبارز، فظ تارة، ظريف تارة، بين تنويعتين مما يسمى في العلاقات الدولية المعاصرة نظرية الرجل المجنون، ومختصرها انه يمكنك أن تنتزع مكاسب أكثر إذا ما خلعت عنك رونق العقل، وتظاهرت بالجنون ومثّلت دور المتهوّر على أكمل وجه .. بشرط طبعاً، أن لا تنسى أنك غير مجنون! وهكذا، بلغ تبادل أدوار الجنون الذروة ثم أمكن تسخير هذه الذروة لما فيه التبريد على جبهة المواجهة بين الكوريّتين، وجرى الاتفاق على موعد لقاء بين كيم جونغ اون وترامب، ثم شاع بأن اللقاء أُلغي، ليتبيّن من ثم أنها كانت عراضة جنون زائف أخيرة، ويلتقي الرجلان.
يبقى أنه، وراء ظنون التحكم بلعبة الجنون جنون من نوع آخر. مشهد قمة سنغافورة يبرز، بلا شك، صورة تنزع الى السلم، لكنه يبرز اكثر واقع أن كل شيء ممكن في هذا العالم، اليوم. بما في ذلك أن يفقد “العاقلون” المتنكرون في أدوار “المجانين” قدرتهم على التحكّم بأدوارهم، أو أن يؤدّي تحكّمهم الزائد بها إلى نتائج عكسية. فبعد كل شيء، انتظارات الحرب كثيراً ما تنتج سلاماً، والتسليم فوق الزائد بحتميات السلام كثيراً ما تتفجر من تحتها التناقضات الحربية.
هل يتجه العالم الى المزيد من الاستقرار؟
أقلّه، هذا أمل ينزع الى التحول الى واقع مادي في شبه الجزيرة الكورية. هذه الأمة الكورية المشطورة على طول خط العرض، والتي لا تزال رسمياً الى اليوم في حالة حرب بين شطريها، ولا يزال كل شطر يعامل نفسه على أنه الأصيل لا الآخر. هذه الأمة الكورية التي ذاقت الأمرّين من اليابانيين والأميركيين، وكان شمالها اكثر حيوية انتاجية من جنوبها حتى السبعينيات، وبعدها انقلبت الحال، وكان جنوبها خاضعاً لديكتاتورية عسكرية أكثر قساوة من النظام الديموقراطي الشعبي المتحوّل الى سلالي في الشمال، الى أن تحوّل الى الديموقراطية التمثيلية أواخر الثمانينيات، ولا يزال يراكم فيها تجربته. كوريا الموحّدة، حتى بنظامين اجتماعيين وسياسيين، شمالي وجنوبي، ستكون قوة اقتصادية وسياسية يحسب لها حساب في أقاصي الشرق الآسيوي. يبدو هذا حلم يوتوبي اليوم، لكن لم يعد هناك خيارات كثيرة بعد الانفراج في كوريا: إما العودة الى الوراء مجدداً، الى التصلّب وبمفعول رجعي بعد كل التطورات الايجابية الاخيرة، وإما التقدّم باتجاه إعادة توحيد شبه الجزيرة، بنظامين مختلفين، وإما انهيار النظام الشمالي إذا ما ظهر أن قفزته الحالية لا يملك ثمن وقودها.
مسارات الشرق الاقصى تبعث على الكثير من التفكير في منسوب استقرار العالم، وهذا التفكير لا بد منعكس على مسائل الشرق الاوسط. مع هذا، وباختراق حاجز التحليلات الجاهزة، ليس هناك من تأثير مباشر للمسار الكوري الشمالي – الاميركي على الوضع في الشرق الاوسط. كما ان المسألة لا تختصر في نزع السلاح النووي. في كوريا، يرتبط نزع النووي بإنهاء الحرب الكورية، ويرتبط إنهاء الحرب الكورية بسلوك درب اعادة توحيد الجزيرة في صيغة معينة. اي تحليل يغفل الطابع القومي للمسألة الكورية هو تحليل بائس. تماماً مثل التحليلات التي تختزل سلوكيات بيونغ يانغ الى توجيهات تحرّكها الصين. الصين هي الأخ الأكبر لكوريا الشمالية، لكن الاخيرة ليست مجرد بيدق لها. النظام الكوري الشمالي لم تتطوّر طبيعته المتصلّبة بإزاء الجنوب وأميركا فقط، بل أيضاً بإزاء السوفيات سابقاً، ثم روسيا من جهة، والصين من جهة اخرى. بل أكثر، لربما يسمح الانفراج مع الاميركيين بتأمين دعامة جديدة لاستقرار النظام في الشمال. طبعاً، هناك المقاربة الاخرى، بأن بيونغ يانغ حالما تسلّم سلاحها تصبح في وضع معمر القذافي. هذا جائز، لكن الامور ليست ابداً بهذه السهولة في كوريا. المناعة التي اكتسبها النظام الكوري الشمالي منذ اربعينيات القرن الماضي أكثر تعقيداً من مناعة اي نظام حكم مطلق في عالم اليوم.
أوضاعنا في الشرق الاوسط تختلف. الكوريتان في حالة حرب لكن فعلياً توقفت بينهما الحرب منذ وقت طويل. وليست هذه الحال في سوريا، العراق، فلسطين، اليمن، السودان، ليبيا. هنا نظام من الحروب المزمنة، وفي ما عنى فلسطين، حالة من الاستعمار الاستيطاني سخرت عميقاً من كل فكرة السلام، وتحديداً من فكرة الارض مقابل السلام.
وحتى في الاتفاق النووي بين المجموعة الدولية وإيران. اختلاف كبير مع النموذج الكوري. فإيران لا تمتلك سلاحاً نووياً بعد، بخلاف كوريا الشمالية، ولا تزال تؤكد قيادتها بأنها لا تريده من الاساس. لكن في المقابل، لم يربط الاتفاق معها ابداً بأي بحث دولي في أمر السلاح النووي الاسرائيلي. ومن جهة ثانية، بدا الاتفاق وكأنه يمكن ايران مالياً كي تستثمر عائداتها وأرصدتها المستعادة في عملية تمدد نفوذها الاقليمي.
لأجل هذا، بالقدر نفسه الذي توحي فيه قمة سنغافورة، بآفاق حذرة، للسلام في الكوريتين، فإنها لا تترك تأثيراً على آسيا الغربية، باستثناء لفت الانتباه الى الاختلاف الاساسي بين المسارات.