من يلاحظ في الأيام الأخيرة مقدار الاحتقان الناشئ بين «أبناء القطاع العام» المستفيدين من سلسلة الرتب والرواتب… و»أبناء القطاع الخاص» الذين سيدفعون الثمن؟ فعندما تتعرقل السلسلة ينفرج العاملون في القطاع الخاص، وعندما «تمشي» يستعوذون بالله… وبالمجلس الدستوري لتعطيلها. فهل المطلوب ضرب القطاع العام بالقطاع الخاص وخلق نزاع اجتماعي لإحباط أي انتفاضة مطلبية حقيقية؟
لا جدال حول أحقيّة حصول القطاع العام وأساتذة التعليم الخاص على سلسلة الرتب والرواتب، ولكن المفاعيل المنتظرة قاسية على الجميع، وربما يصل بعض المستفيدين من السلسلة إلى مكانٍ يندمون فيه على إقرارها، لأنهم أخذوها باليد اليمنى ودفعوها باليد اليسرى.
في معزل عن مروحة الضرائب المفروضة والأمكنة التي ستؤخذ منها، يتوقع الخبراء في الاقتصاد أن تطاول مفاعيلها كل الفئات، بما فيها فئة متوسطي الحال والفقراء الذين – علمياً – لا يمكن عزلهم عن الحلقة التي يدور فيها الاقتصاد برمّته. ولا يمكن تجاهل موجة التضخّم التي بدأت تضرب باكراً وتزداد صعوداً وتشمل الجميع.
النتائج المتوقعة هي الآتية، وفي شكل إجمالي:
– الذين تحسَّنت رواتبهم بنسَب قليلة سيكتشفون أنّ موجة الغلاء أطاحت الزيادة وأكثر.
– الذين تحسّنت رواتبهم بنسَب عالية سيحافظون على أجزاء منها.
– العاملون في القطاع الخاص، غير المستفيدين من السلسلة، سيدفعون الثمن من جيوبهم وستزداد أوضاعهم سوءاً، وسط ركود وأزمة بطالة. وهذا التضخم سيزيد من حراجة الوضع الذي تعيشه المؤسسات في القطاع الخاص.
ربما كان المتضررون من السلسلة سيتقبلونها لو جاءت تنصف قطاعاً عاماً منتجاً وسليماً يبذل التضحيات في سبيل المصلحة العامة. ولكن، في معزل عن المؤسسة العسكرية والعديد من المنتجين والأكفياء الذين لا يمكن تجاهلهم في داخل الإدارة، هناك أسئلة كبرى يطرحها الاقتصاديون:
لماذا سنكافئ، مِن تَعَب القطاع الخاص المنتج والخلّاق، أعداداً كبيرة من الموظفين الفاسدين، الفائضين، الذين لا عمل لكثير منهم، ولا كفاية علمية أو مهنية، ويهدرون مال الدولة؟
كل الخبراء والسياسيين يُجمعون على أنّ هناك فساداً كبيراً في الدولة يكلّفها المليارات سنوياً ويجب استئصاله. ولكن، اليوم، جاءت السلسلة تكافئ هذا الفساد وتزيد من أكلافه على الدولة والمواطن.
وأساساً، لم يعمد السياسيون إلى سلوك الطريق المناسب بتمويل السلسلة من مزاريب الهدر والفساد في الدولة، بل هربوا من هذا الاستحقاق لأنّ معظمهم يستفيد من هذه المزاريب ويموِّل المحاسيب. ففي تمويل السلسلة تَكرَّس الفساد… وكذلك في شموله فئات فاسدة داخل الإدارة!
إذاً، لا يمكن الركون إلى «سلسلة الفساد والفاسدين». ويجري التداول في أوساط اقتصادية وسياسية بمشروع إصلاح إداري يجب أن تبدأ به الورشة قبل أن تنتهي بمنح سلسلة الرتب والرواتب.
ويقوم على الآتي:
– تنطلق ورشة تُكلَّف بها هيئات من الخبراء في الإدارة والرقابة والمحاسبة لدرس وضعية الإدارة وتقويم العاملين فيها.
– تُمنح الهيئة صلاحيات واسعة، وتُعطى مهلة ستة أشهر أو تسعة أو عاماً كاملاً لإنجاز عملها.
– يتم إقرار ما توصلت إليه الهيئة، ويجري تطهير الإدارة من الفاسدين والعاطلين عن العمل، ويتم توزيع الفائض بين دوائر الدولة ومرافقها وفقاً للحاجة وكفايات كل موظف.
– في هذه الأثناء، تكون سلسلة الرتب والرواتب سارية المفعول، ولكن يتم تجميد التنفيذ حتى الانتهاء من عملية تطهير الإدارة. وبعد تحقيق هذا الهدف، يتم دفع سلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام، مع مفعول رجعي عن كل المدّة التي جرى فيها التجميد.
وفي هذا الإجراء، يكون قانون السلسلة ساري المفعول منذ إقراره، لكن التنفيذ أرجئ حتى تنظيف الإدارة.
ولكن، مَن يأخذ على عاتقه الدخول في ورشة الإصلاح والمسّ بالمحاسيب الذين زرعهم السياسيون في الإدارة ليكونوا مطيّة لهم، وإجمالاً هؤلاء هم أفسدُ الفاسدين؟ وربما يبدو هذا المشروع خيالياً على أبواب انتخاباتٍ يريد السياسيون فيها استخدام كل طاقاتهم لرشوة المفاتيح الانتخابية والفاعلين والناخبين.
غالبية الزعامات السياسية أدخلت المحاسيب إلى الدولة كعمليات رشوة إنتخابية حتى تفاقمت أعداد العاملين، وعمّت الفوضى والفساد والهدر في معظم المواقع، ولا أحد يحاسب أحداً.
وفي التقويم المهني والعلمي لكثير من موظفي القطاع العام، هناك حالات فضائحية أحياناً. والصالح يؤخذ بجريرة الطالح. ويتمتع الفاسدون بضمانات هائلة وتعويضات طائلة، ولا أحد يجرؤ على المسّ بمغاورهم، ويكافَأون بسلسلة رتب ورواتب يجري تمويلها مِن عرق الكادحين في القطاع الخاص.
وأكثر من ذلك، هل المطلوب خلق مواجهة إجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد، بين العاملين في القطاع العام والعاملين في القطاع الخاص، بحيث تبدو الطبقة السياسية هي «الحَكَم الصالح» بين أفراد المجتمع المنقسم، بدلاً من أن تكون هي المستهدف بحراك المجتمع المدني؟
إنها دورة فساد بفساد، هرباً من مواجهة النظافة واستحقاق التطهير. وكما انّ إنقاذ لبنان يتمّ بتنظيفه من خلايا الإرهاب النائمة، فكذلك، يكون إنقاذه بتطهير الإدارة من خلايا الفساد النائمة… و«الواعية»!
وإذا كان الطاقم السياسي هو الذي يحمي هذه الخلايا، فالإصلاح يبدأ به، من الأعلى إلى أسفل الهرم. ولكن، أين الانتخابات التي تُصلِح وتُغيِّر؟