Site icon IMLebanon

الفلسطيني الذكي…

 

الجملة البلاغية، التي قالها الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس من أنّه «لم يُولد بعد الذي يمكن أن يُساوم على القدس»، فيها رنين العاطفة والشعر ومرادفات القداسة وكثافة التراكمات الجمعية الدينية والقومية.. مثلما فيها دقّة في السياسة تكتيكاً واستراتيجياً، وحساباً صحيحاً لا تنقضه وقائع الميزان المختلّ لصالح الإسرائيليين، ولا الدعم الإضافي والاستثنائي المندلق عليهم من جهة واشنطن.

 

والرجل الشجاع محمود عباس، لن يكون أقلّ شجاعة من ياسر عرفات في موضوع القدس. ولن يكون في الوقت نفسه، من هواة البهورات الفارغة التي تؤذي ولا تنفع في شيء. ولا من داعمي الشطط المؤدلج الذي لم يحرّر شبراً واحداً على مدى عقود الاحتلال! مثلما لن يكون بالتأكيد، إنتحارياً في خياراته السياسية، أو مؤثراً لشعبوية مدمّرة، على حساب حقائق كثيرة، ذاتية وموضوعية.

 

قبل كلمته في «المؤتمر العالمي لنصرة القدس» الذي نظّمه الأزهر في القاهرة في حضور ممثّلين عن الديانات الثلاث، استطاع الرئيس الفلسطيني أن يمرّر خلاصات اجتماع «المجلس المركزي» بذكاء بارد. وتجنّب الخيارات التي راهنت حكومة نتنياهو عليها! وفي أساس ذلك بناء توليفة حاسمة ومتوازنة تضع مصير القدس خارج اللحظة المتفجرة التي سبّبها قرار الرئيس دونالد ترامب، ولا تذهب في الوقت نفسه إلى إنفعال شبيه بما قيل من أن «دور» واشنطن في العملية التفاوضية، انتهى! أو «يجب» أن يُستبدل! أو أن يتم التراجع عن الالتزامات الواردة في «إتفاق أوسلو»! وما إلى ذلك، من ضجيج بلاغي وبياني يثبت مقولة الظواهر الصوتية ويؤكدها!

 

راهن نتنياهو على أن يُكمل الفلسطينيون ما بدأه ترامب! وأن يأخذهم الانفعال إلى خطوات لا رجعة فيها، وأن يكون ذلك تتويجاً ميدانياً للنهج الرافض لأي تسوية لكن من دون أن يتحمل هو تبعات ذلك!… راهن على أن يعطيه أباطرة الضجيج الممانع إقليمياً، والقريب من ذلك فلسطينياً، هدية العمر! بعد أن أخذ موقفاً أميركياً غير مسبوق. وأن ينسحب الفلسطينيون ببساطة تامة، وتحت تأثيرات وقع الصّدمة من هذه المحنة المسمّاة عملية التسوية! وأن يضيّعوا بانفعالهم الناري ما بُني على مدى المرحلة السابقة منذ «أوسلو» إلى اليوم! وأن يخرج بريئاً من تهمة رفض «السلام» بالاستيطان وتغيير الديموغرافيا والجغرافيا بما يتلازم حرفياً مع نظرية سلفه إسحق شامير الذي انطلقت أُولى جولات التفاوض الماراتونية معه في مدريد في مطالع التسعينات من القرن الماضي!

 

.. نظريّة التفاوض شكلاً وتثبيت الاحتلال ضمناً. والاستمرار في المماحكة إلى أن «يعتدل» القياس الدولي والأميركي، وتعود الاصطفافات المتقابلة لتشكّل شعاراً كافياً لإنهاء تركيبة «الأرض في مقابل السلام»، واستبدالها بواحدة تقول «السلام في مقابل السلام». و«إعطاء» الجانب الفلسطيني «كل الحق» بالحكم الذاتي تحت الاحتلال وقوانينه وإجراءاته!

 

لم تزعج «بندقية» عرفات إسرائيل بقدر ما «أزعجتها» خياراته التفاوضية.. مثلما لم تزعجها (ولا تزعجها!) ردميات «الرمي في البحر» و«الغدّة السرطانية» و«طريق المقاومة» بقدر ما تزعجها الإرادة التي يمكن أن يكون محمود عباس آخر المعبّرين الأذكياء والشجعان عنها، بتأكيد التمسّك بالمسار التفاوضي المستند إلى مبدأ «الدولتين» و«العاصمتين» برغم النكوص الأميركي الراهن!

 

يستند الرئيس الفلسطيني إلى شيء عملي وواقعي موازٍ بـ«واقعية» الاحتلال والاستيطان والموقف الأميركي، وذلك هو استمرار الالتزام الدولي (والإقليمي) العام بمسار التسوية واستحالة بدائله.

 

ثمّ حقيقة كون «مصير الفلسطينيين» أبعد ما يكون عن مصير «الهنود الحمر» البائس والمحزن! ثم حقيقة تنامي وعيهم المزدوج بشرعية امتلاكهم للأرض مهما طال الزمن. وعدم وجود من يمكنه منهم «المساومة على القدس»، في مقابل كثرة أمثال عهد التميمي برغم تميّزها الآسر، ونضارتها الأخّاذة، ووعيها الجميل.

 

علي نون