لبنان الذي نجح في البقاء بعيداً نسبياً من الأتون السوري المشتعل حوله منذ أكثر من أربع سنوات، فاجأ الحلفاء قبل الاعداء. استقراره، وإن يكن هشاً، أدهش كثيرين. مراراً، حاولت النيران المشتعلة من حوله مد ألسنتها الى اراضيه، قصفا حيناً وخطفاً حيناً آخر وتفجيرات أحياناً، لكنه صمد. العبء الثقيل لمئات آلاف اللاجئين السوريين ذوي الولاءات والانتماءات المختلفة لم يثنه عن التكيّف مرغماً مع ديموغرافيا جديدة، على رغم تركيبته السياسية والطائفية المعقّدة. تورّط فريق من اللبنانيين طوعا في حرب سوريا لم يزعزع اقتناع فريق آخر بوجوب النأي بالنفس عن نزاع أكبر من طاقتنا. وبسحر ساحر، أمكن تجنيب لبنان مصيبة أكبر، واقتصرت معاناتنا حتى الآن على تشييع الذين يسقطون في حرب الآخرين على ارضهم.
لبنان ليس بعيداً مما يحصل في سوريا. الحرب المفتوحة التي يخوضها الجيش اللبناني مع المسلحين على الحدود كبّدته خسائر كبيرة في الارواح. الخلايا النائمة التي تفكك بين الحين والآخر ليست الا قنابل موقوتة. ومع ذلك، يمكن التباهي بأن التداعيات الامنية وخصوصاً للحرب السورية بقيت محصورة. الخسائر المباشرة أصابت المؤسسات الدستورية. الجمهورية بلا رئيس منذ أكثر من سنة ومجلس النواب ممدد له مرتين، ومثله القيادات الامنية. حكومة تعمل بلا تفويض شعبي، ونشاطها معلّق على مزاج بعض الزعماء. الا أنها مع ذلك بقيت الحصن الاخير أمام الفراغ الكبير.
لكن الاستقرار الهش هذا يكاد يسقط أمام أزمة النفايات. صحيح أن هذه المشكلة ليست بنت ساعتها، الا أن الحلول السريعة والقذرة التي حاولت الحكومة اجتراحها، سواء ببيع أسوج النفايات أو محاولة رشوة بلديات مناطق نائية لتحويلها مكبات في مقابل مساعدات انمائية، ليست بعيدة من اخلاقيات أمراء الحرب الذين حكموا لبنان طويلاً. السماح بحرق النفايات في الشوارع أو نقلها من هذا الشارع الى ذاك الوادي، يعكسان غياباً تاماً للوعي. ارجاء فض العروض اسبوعاً افساحاً في المجال لهذه الشركة أو تلك، فيما الشوارع تضيق بالنفايات واللبنانيون يختنقون بروائحها، ليس قرار سلطة مسؤولة. المحاصصة العلنية والمفضوحة في مناقصات النفايات بحجة التعجيل في معالجة الازمة وتلبية مطالب المحتجين ليست الا دليل عجز وفساد طبقة سياسية تمعن في تقويض هيبة الدولة أو ما تبقى منها.
في المونتيفيردي، احدى اجمل بقاع لبنان الخضراء، رائحة تحيي في أذهاننا ذكرى الحرب الاهلية. رائحة مكب النفايات الذي كان خط تماس بين المتن الجنوبي والمتن الشمالي. وكما في المونتيفيردي كذلك في قلب العاصمة روائح منبعثة تنذر بأزمات أكبر. فهل من ينقذ لبنان قبل أن تحقق النفايات ومَن وراءَها، ما عجزت عنه الحرب السورية بترساناتها الضخمة؟.