توغّل النظام الزبائني وتغوّله يفوّتان فرصة الإصلاح والخروج من الأزمة
إنفجار الأزمة النقدية في نهاية العام 2019 أصاب سريعاً الاقتصاد الكلي بمقتل. فتوقفت الدولة عن سداد ديونها، وانهار التصنيف الإئتماني، وتراجع الناتج المحلي وتعمّق الإنكماش، وخسرت العملة قيمتها، ورزح ثلثا الشعب اللبناني تحت خط الفقر. ومع هذا بقي الاقتصاد الجزئي يعمل بطريقة أو بأخرى، والعائلات تتدبّر أمورها، إلى أن بدأت مؤخراً تتساقط بكثافة شظايا الإنفجار، مستفيدة من ارتفاع ضغط الأزمات الدولية لتندفع أسرع، وتقضي على ما تبقّى من قدرة على الصمود.
الارتفاع الهائل في أسعار المحروقات وتداعياته المباشرة على كلفة النقل وتأمين الكهرباء، وبشكل غير مباشر على أسعار السلع والخدمات يعطّل الاقتصاد ويدفع بالأسر إلى الانهيار التام. فسعر صفيحة البنزين ارتفع منذ آذار 2021 وحتى آذار 2022 من 34,500 ليرة إلى 475 ألف ليرة، أي بزيادة مقدارها 440500 ليرة ونسبتها 1276 في المئة. فيما ارتفع سعر المازوت للفترة نفسها من 27500 ليرة إلى 552 ألفاً، أي بمقدار 524000 ليرة وبنسبة 1907 في المئة. هذه الارتفاعات الخطيرة في بلد يعتمد مواطنوه على السيارات الخاصة للوصول إلى أعمالهم، وعلى المولدات الخاصة للإنتاج وإضاءة المنازل، تمتص فعلياً النتائج الايجابية من المساعدات الاجتماعية، وتخفض من فعاليّة تحويلات المغتربين. فالمئة دولار سواء أتت من الخارج أو من المساعدات، لم تعد تكفي لتسديد فاتورة اشتراك 5 أمبير، أو حتى تأمين الوصول لمدة 10 أيام إلى العمل.
الفعالية المحدودة للمساعدات الإجتماعية
الأخطر أن ما يُدفع من مساعدات، لا يسدّ الرمق، فهذه المساعدات تأتي إما من قروض بكلفة مرتفعة، وإما من طباعة النقود التي تتسبّب بالمزيد من التضخّم. و»لطالما حذّرنا منذ بدأ الحديث عن خطط الحماية الاجتماعية من أن هذه الأزمة ذات الأبعاد المتعددة والحادة جداً لا يمكن معالجتها إلا من خلال مقاربة شاملة»، يقول المدير التنفيذي في الشبكة العربية للمنظمات غير الحكومية زياد عبد الصمد. فـ»الإنفاق العام على ضخامته، يبقى تأثيره موضعياً وآنياً وغير مستدام، ولا يترك نتائج حسية أو ملموسة على معيشة الأسر والاقتصاد. فهو يمنع الناس من الموت جوعاً، لكنه أعجز من ان يجعلهم ينهضون. والأخطر أن القسم الأكبر من هذا الإنفاق المتأتي من الاستدانة، يراكم المزيد من الأعباء على المديين المتوسط والبعيد ويفاقم المشاكل ولا يحلّها».
مقابل الارتفاع الهائل في الإنفاق الاجتماعي الذي يوزع كزيادات على الرواتب بقيمة تتراوح بين 12 و15 ألف مليار ليرة، وقرض الحماية الاجتماعية بقيمة 246 مليون دولار، والانفاق على الصحة… «تغيب الفعالية عن أنظمة الحماية الاجتماعية»، بحسب عبد الصمد. فالضمان معطل، ومستحقاته البالغة نحو 5000 مليار ليرة مجهولة المصير. كذلك الأمر بالنسبة إلى تعاونية موظفي الدولة وتقديمات شركات التأمين… وبالتالي هذه هي اللحظة المناسبة للانتقال نحو نظام للحماية الاجتماعية الشاملة الذي يغطّي كل المواطنين اللبنانيين وبالقيمة نفسها. فبدلاً من مدّ بعض الأسر بالأموال بشكل مباشر، يمكن تخفيف الأعباء عن كافة المواطنين من خلال تخصيص الأموال لإصلاح الكهرباء وزيادة التغذية. الأمر الذي يوفّر على كل عائلة ما لا يقل عن مليون ليرة شهرياً. والأمر نفسه ينسحب على تأمين النقل العام المشترك الذي يستفيد من تقديماته كل المواطنين وليس شريحة أو فئة معينة.
التغيّر الديموغرافي
الأزمات الاقتصادية والاجتماعية تُفقد لبنان تدريجياً أحد أهم مقومات النمو المتمثلة باليد العاملة الشابة والماهرة، وتهدّد بإصابة البلد بمرض الشيخوخة المبكرة. فبحسب دراسة الدولية للمعلومات حول تداعيات الأزمة الاقتصادية وكورونا على لبنان عن الأعوام ما بين 2018 و2021 يتبيّن أن عدد الولادات تراجع بمقدار 29827 ولادة، وبنسبة 32 في المئة، فيما سجلت أعداد المسافرين زيادة كبيرة قاربت 80 ألف مسافر. الأمر الذي أدّى بحسب الدولية للمعلومات إلى «انخفاض في حصيلة الزيادة السكانية من 67360 شخصاً في العام 2018 إلى 28405 في العام 2021. وإذا ما أضيف هذا التراجع إلى الارتفاع الكبير في أعداد المسافرين والمهاجرين، فإنه يؤشر إلى شيخوخة اللبنانيين المقيمين.، ولاسيما في حال استمرار هذه الظاهرة. ومن المؤشرات التي تستحق التوقف عندها تراجع نسبة الزيجات في هذه الفترة إلى حدود 7,2 في المئة وتوقف 3 طلاب من أصل كل 10 طلاب عن دراستهم الجامعية للالتحاق بجيش العاطلين عن العمل. وذلك لعجزهم عن تحمّل التكاليف المرتفعة.
قنبلة موقوتة
هذه المؤشرات التي تشكل غيضاً من فيض التداعيات المباشرة وغير المباشرة للأزمة على الاقتصاد والمجتمع تشكل «قنبلة موقوتة» من وجهة نظر عبد الصمد. فـ»تسارع الانهيارات المترافقة مع تعمد السلطة السياسية عدم القيام بأي فعل إنقاذي ينذران بانفجار إجتماعي في أي لحظة. ذلك أن التحوّلات المجتمعية لم تعد مقتصرة على ارتفاع نسب الفقر والبطالة والهجرة، إنما أيضاً تصاعد مقلق للعنف بمختلف أشكاله».
إهمال الحلول عمداً
على الرغم من هذه الظواهر التي تهدّد بتقويض البلد على من فيه، لم تخطُ السلطة خطوة واحدة باتجاه الإصلاح. فلم تقر الموازنات، ولم يستكمل التدقيق الجنائي، ولم تُعد هيكلة المصارف، ولم تبدأ المفاوضات مع الدائنين ولم يتم التوصل إلى اتفاق، ولو أوّلي، على خطة التعافي، ولم يتم إصلاح الكهرباء، ولم يقرّ الكابيتال كونترول… والقائمة تطول من إصلاحات معلقة كان إقرارها ليساعد على التخفيف من حدّة الأزمة. فكل ما اتّخذ من تدابير كان على حساب المواطنين ومن أجل ضمان من في السلطة استمراريتهم في مواقعهم.
الحل الشامل
مقابل اتفاق الجميع على أن المدخل لحلّ الأزمات الاقتصادية، الاجتماعية والنقدية هو سياسي بامتياز، ما زالت السلطة الحاكمة مستفيدة من توغّل وتغوّل النظام الزبائني. ففي ظل غياب الخدمات العامة وترهّل الدولة وتخليها عن مسؤولياتها، يعوّض السياسيون على أزلامهم ومحسوبيهم بالقليل ممّا أخذوه من الدولة، و»يسترجعون ثمن الخدمات بالتجديد لهم في الخدمات»، يقول عبد الصمد.
ومن جهة أخرى، يظهر أن القوى التي تطرح نفسها كبديل عن سلطة الأمر الواقع ليست جاهزة بعد، ولا تقدم خياراً مقنعاً للمواطنين». وبالتالي ثمرة التغيير نضجت ولكن لا يوجد من يقطفها والخوف أن «تهتري وتهر» من دون أن نستفيد منها لإحداث خرق حقيقي في جدار الأزمة السميك.