IMLebanon

الناجي الوحيد من المجزرة

أرض العراق، قوس قزح من الحشارات والآثار والثقافات يبهر العقول قبل الأحاسيس. ولعل صخب الألوان العراقية شكل عامل غيرة وغضب لدى الغزاة الذين لم يتوانَ أي منهم عن صبغها بالأسود. هولاكو لم يكن وحده مصاباً بعمى الألوان كي يغرق مكتبات بغداد في دجلة حتى يعبر جيشه النهر. العثمانيون لم يكونوا أكثر رأفة بالكنوز العراقية ولا بالتنوع الثقافي والاتني الذي تحضنه هذه الأرض فعاثوا فساداً فيها وتنكيلاً بأقلياتها المنسية من قعر التاريخ. حتى الإنكليز والألمان والفرنسيون أثروا متاحفهم بما سرقوه من قطع فنية ذات قيمة تاريخية فريدة من بلاد الرافدين وبلاد الشام وطبعاً من مصر الفرعونية.

ولكن حتى ما فعله الغازي التتري المغولي بعاصمة الرشيد لا يقاس بالكارثة التي كانت تجري أمام أنظار الغازي الاميركي في متحف بغداد وبابل وسامراء والاستباحة الفظيعة للتاريخ العراقي العابق بالعجائب. والآن جاءت “داعش” لتكمل على النزر الباقي ولتستبيح وتفجر المقامات والمعابد والزوايا وما يصعب سرقته من شواهد ومعالم اثرية وتاريخية قيمة. ألهذا الحد يكرهون هذه المنطقة وتنوعها؟ ألهذا الحد يحقدون على تاريخها ولماذا؟

إنهم عمداً يدمرون تراثاً ويدمرون روح شعب وهوية. يدمرون تاريخ هذه البقعة مثلما يدمرون مستقبل شعوبها. وكل يدمر على ليلاه ومن أجل غاية لا تشبه بالضرورة غاية من سبقه في التدمير، لكن الحصيلة مجزرة حضارية تولد مجزرة حضارية حتى صارت هذه المجازر التي لا تقل بشاعة عن الابادة الجماعية التي تتعرض لها قوميات وشعوب باكملها، ملازمة لمنظومتنا الثقافية والفكرية المحدثة.

لم تعد تنفع كل الاسئلة عن الدوافع والاسباب وراء هذه المجازر، المهم انهم يتفقون جميعاً أياً كانت تسمياتهم وعقائدهم وخلفياتهم، على اجتثاث جذور هذه الارض وما راكمه ناسها من ثقافة ومظاهر تنوع بالسرقة حيناً وبالتدمير حيناً.

ومن المفارقات المثيرة للريبة، انه وقت كانت “داعش” تعرض عضلاتها في متحف نينوى بالموصل وتحطم اجنحة الاشوريين المتأصلين في هذه الارض على نهر الخابور، وتسبي الايزيديات في سنجار وكذلك الشبك والكاكائيين وتسحق مقامات الانبياء وضرائح الائمة وتهدم الكنائس، كانت اسرائيل تحتفل باستعادة أهم الآثار عن تاريخ اليهود في العراق وتصف الحدث بـ”الانتصار التاريخي للشعب اليهودي”. هذه الكنوز المستعادة ومنها مخطوطات توراتية نادرة ووثائق السبي وارشيف اليهود العراقيين وتحف يهودية نادرة كانت محفوظة في الغرف المحصنة في مبنى الامن القومي العراقي السابق، وكان يفترض ان تعيدها واشنطن الى بغداد بعد ترميمها، لكنها الآن صارت في تل ابيب… فهل المطلوب محو كل التاريخ غير التوراتي وحفظ ما هو توراتي ليبقى منظوراً تاريخياً وحيداً لهذه المنطقة؟