ليس صحيحاً انّ أسلوب تدوير الزوايا هو الأسلوب الأفضل دائماً لمعالجة الأزمات التي يتطلّب بعضها التخلي عن الديبلوماسية واتخاذ المواقف الحاسمة والحازمة لحلّها، وإلّا بقيت في مستنقع المراوحة والتمييع. هل هناك من يصدِّق أنّ الرئيس سعد الحريري يتحمّل مسؤولية تعليق جلسات الحكومة، وانّ التعطيل الحكومي مردّه الى عدم توجيهه دعوة لالتئام مجلس الوزراء؟ هل من يصدِّق أنّ النائب طلال ارسلان يعوق وحده عدم انعقاد مجلس الوزراء من دون ان يكون مدعوماً من «حزب الله» و»التيار الوطني الحر»؟ وهل من يصدِّق أنّ المعالجة المطلوبة لحادثة قبرشمون هي قضائية بحتة وليست سياسية من أجل التشفّي من الحزب التقدمي الإشتراكي؟
من يستمع إلى السيّد حسن نصرالله يؤكد أنّ «حزب الله» سيكون في طليعة المشاركين في أي جلسة حكومية يدعو إليها الحريري، ومن يستمع إلى الوزير جبران باسيل يرفع عن تياره تهمة التعطيل واستعداده لتلبية اي دعوة الى جلسة حكومية، يخرج بانطباع حاسم وأكيد أنّ من يتلكّأ بالدعوة هو رئيس الحكومة، وانّ التعطيل مصدره «بيت الوسط» وليس «حارة حريك» ولا «ميرنا الشالوحي»، فيما هذا الانطباع ليس في محله على الإطلاق، لأنّ عدم دعوة الحريري الى جلسة حكومية مردها إلى سعيه للوصول إلى مخرج توافقي لحادثة قبرشمون يجنِّب مجلس الوزراء صداماً فانقساماً ينقل البلد من أزمة حكومية إلى أزمة وطنية.
ولكن بعد كلام نصرالله وباسيل لم يعد في استطاعة الحريري تأخير الدعوة الى جلسة حكومية، وإلّا سيتحمّل فعلاً مسؤولية التعطيل، خصوصاً انّ كل المبادرات وصلت الى الحائط المسدود، وهذا الوضع يمكن ان يستمر لأسابيع وأشهر عدة اذا لم يبادر الحريري إلى الدعوة وتحميل من يجب تحميلهم المسؤولية عن التعطيل، ويجب ألا يخشى الحريري اي شيء، لأنه اذا كانت هناك إرادة بالتأزيم فالتأزيم المكشوف أفضل من التأزيم المقنّع بشكله الحالي، فضلاً عن انّ التأزيم المفتوح يمكن ان يفتح ثغرة جدية للمعالجة خلافاً للوضع الحالي.
ومن الواضح انّ كلّاً من نصرالله وباسيل يخشى ان تلصق بصورته شبهة التعطيل لأسباب داخلية وخارجية، ومن هنا أهمية الدعوة الى جلسة حكومية من أجل إحراجهما وكشف من يتلطّى خلف ارسلان تحقيقاً لمآربه، ويمكن في هذا السياق توقّع السيناريوهات الآتية:
أولاً، في حال تمسّك رئيس الجمهورية بعقد الجلسة في القصر الجمهوري، يبلغه رئيس الحكومة رسمياً أنه يرفض تضمين جدول أعمال الجلسة بند المجلس العدلي، كما يرفض طرحه على التصويت من خارج الجدول لأنه سيخرج من الجلسة التي سترفع تلقائياً فور خروجه، وفي حال عدم موافقة الرئيس ميشال عون على هذا الطرح يعلن الحريري أمام الملأ رفض رئيس الجمهورية، ويعلن مزاولة تصريف الأعمال من السراي. وبالتالي، ينقل الكرة من ملعبه إلى ملعب الطرف الآخر و»بطّيخ يكسِّر بَعضو».
ثانياً، في حال انعقاد الجلسة في السراي الحكومي تسقط الخشية من طرح الموضوع من خارج جدول الأعمال، ويكون باستطاعة الحريري التحكم بإدارة الأمور بعيداً عن المفاجآت الخارجة عن سيطرته، فعندما يكون إيقاع الجلسة مضبوطاً بإدارته يستطيع رفعها متى شاء ذلك، وحتى بإمكانه إحراج الطرف الآخر لترك الجلسة وتحميله المسؤولية عن التعطيل.
ثالثاً، ما يصحّ على الإحالة الى المجلس العدلي لا ينسحب على النقاش في الحادثة، فالإحالة غير ممكنة لسببين: لأنّ اي إحالة من هذا النوع تتطلب توافق مجلس الوزراء، الأمر غير المتوافر في هذه القضية، ومجلس الوزراء وحده المخوّل اتخاذ القرار في هذا الشأن، ولأنّ طبيعة الحادثة لم تبيِّن وجود كمين لاغتيال الوزير صالح الغريب، حيث أثبتت التقارير الأمنية انّ طلقة الرصاص الأولى انطلقت من موكبه في لحظة غضب وتعبئة وتحشيد استتبعَت ردة الفعل المعروفة، فيما لو لم يطلق موكبه الرصاص لكانت الأمور انتهت، ربما، من دون سقوط أي نقطة دماء، فضلاً عن انّ الكمين لا يتم عن طريق تجمعات لناس وأهالي وجوههم مكشوفة.
وأمّا لجهة النقاش في الحادثة داخل جلسة مجلس الوزراء فيجب الّا يكون موضع رفض واعتراض، لأنه اذا لم يكن مجلس الوزراء المكان الصالح لمناقشة قضايا من هذا النوع، فأين تُناقش؟ ولكن النقاش يتم ضمن حدود محاولة الخروج بتوافق مع خط أحمر هو رفض الإحالة إلى المجلس العدلي.
رابعاً، هناك من يضع الاستعداد المعلن من نصرالله وباسيل لتلبية الدعوة الى جلسة حكومية في إطار إمّا الموقف العلني لاستبعاد تهمة التعطيل، والطلب من الحريري ضمناً التريّث في الدعوة تجنباً لتفجير الحكومة، وإمّا جرّه الى مواجهة داخل مجلس الوزراء تحت عنوان الإصرار على التصويت، الأمر الذي يجب الّا يخشاه الحريري بتاتاً، وإمّا كمخرج من أزمة قبرشمون التي وصلت الى الحائط المسدود والقول لإرسلان هذا أقصى ما يمكن فعله في الظروف الحالية، خصوصاً في ظل كلام عن انزعاج من السقف الذي وضعه ارسلان وشروطه وعدم حسن إدارته شَد الحبال السياسي.
خامساً، تعوّد هذا الطرف على سياسة حافة الهاوية مراهناً على تراجع الحريري او صاحب الشأن، على غرار ما حصل في قبول الحريري وجنبلاط بتوزير من خارج صفوفهما خلافاً لموقفهما السابق الرافض هذا الأمر جملة وتفصيلاً. وبالتالي، يراهن أنّ مواصلة الضغط لا بد من ان تؤدي الى نتيجة، ولكنه يخطئ هذه المرة لتبدُّل قواعد اللعبة وتوازناتها ولاعتبارات داخلية أخرى وخارجية.
سادساً، تَموضع الرئيس نبيه بري إلى جانب جنبلاط يؤشّر الى انّ «حزب الله» لا يخوض هذه المواجهة تحت عنوان «إلهي» يستدعي اصطفافاً واضح المعالم، بل المسؤولية أصبحت مُلقاة على إرسلان الذي لم يستفد من كل المبادرات للخروج من الأزمة بحفظ ماء وجهه.
سابعاً، لا مؤشرات تفيد لغاية اللحظة أنّ «حزب الله» بَدّل في استراتيجيته من حرصه على الاستقرار ربطاً بأجندته الإقليمية، إلى ضرب هذا الاستقرار تنفيذاً للأجندة نفسها التي استدعت تحويل لبنان الى ساحة ساخنة، ومن بين هذه المؤشرات ما يحصل على مستوى التعطيل الحكومي. ولكن لا يمكن الجزم بهذا التوجّه قبل مراقبة سياق انتهاء فصول هذا التعطيل.
والثابت في كل هذا المشهد انّ المبادرات لم تعد تُجدي نفعاً لسقوطها الواحدة تلو الأخرى، فيما المطلوب واحد: الدعوة الى مجلس الوزراء ووضع الجميع أمام مسؤولياتهم و»يَلّي بدّو يصير يصير».