من الطبيعي أن تكون طرابلس، ومعها كل لبنان، إلى جانب الجيش اللبناني في معركته ضد الخلايا الإرهابية، لأن خيار اللبنانيين، خاصة أهل طرابلس والشمال، الأول والأخير هو الشرعية والدولة.
هذا الخيار غير قابل للنقاش أو التعديل، مهما اشتدّت الظروف والضغوط. لأنه أصبح مسألة وجود في بلد ارتضاه أبناؤه أن يكون وطناً نهائياً، في مجتمع متنوّع ومتعدّد.
هذه المفاهيم التي انبثقت عن الثوابت الإسلامية الوطنية التي أعلنتها دار الفتوى منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ما زالت تعيش في وجدان أهالي طرابلس، والمنية والضنية وعكار، الذين رفدوا الجيش الوطني والمؤسسات الأمنية الأخرى، بأعزّ ما أنعم الله عليهم في هذه الدنيا: أبناءهم، فِلذات أكبادهم.
ولكن لا الدولة، ولا الطبقة السياسية المفلسة، بادلت أهالي طرابلس والشمال حماسهم للشرعية، ولا قدّرت إقبالهم على الانخراط في مؤسساتها الأمنية والإدارية، ولا تحمّلت واجبات تضحياتهم وإخلاصهم لمشروع الدولة!
وكان أن أدار الجميع، الدولة والسياسيون، ظهورهم لهذه المناطق الفقيرة، والتي تفتقد إلى أبسط الخدمات الإنسانية، وتركوا عائلاتها وشبابها فريسة الفقر والجهل، والعوز والحرمان،.. فلم يجد بعضهم غير السلاح وسيلة لإسماع صوته المكتوم أصلاً، فكان أن حضر التطرّف إلى الجهل والفقر ليضفي على السلاح مسحة شرعية، تحت شعارات لا تمتّ للدين الحنيف بصلة!
* * *
هذا الواقع المرير، لم يكن غائباً عند الحكومات المتعاقبة، ولا عند الزعامات الطرابلسية، ولكن أحداً لم يحرِّك ساكناً، ولم يكلِّف أي طرف سياسي جماعته عناء التعامل مع القنبلة البشرية في الفيحاء، بما تستحق من عناية واهتمام، ليتمّ تفكيك عناصر تفجيرها، عبر مشاريع إنقاذية وإنمائية ملحّة، قبل أن يُشعل اليأس والتطرّف نيران المعارك الإنتحارية والمدمِّرة.
التنظيمات المتطرِّفة استغلّت بيئة البطالة في صفوف الشباب، ومشاعر اليأس والفقر والحرمان التي تتخبّط فيها أحياء التبانة وباب الرمل وسوق الحدادين، وزواريب المحاور الداخلية، محاولة خلق بنية حاضنة لأفكارها وممارساتها في طرابلس والشمال.
ومن نافلة القول أن المحاولات المتكرّرة، والتي تورّط في بعضها مَنْ يحسبون أنفسهم دعاة ورجال دين، زوراً وبهتاناً، لم تنجح في استيلاد بيئة حاضنة للغلوّ والتطرّف باسم الدين، واقتصر الأمر على شباب بعض الأحياء، الذين امتهنوا حمل السلاح، بعدما أصبح مورد رزقهم الوحيد.
* * *
المعركة العسكرية التي يخوضها الجيش باللحم الحيّ، وبشجاعة ضباطه وجنوده، على أهميتها، ليست هي الحل الجذري لاستعادة الأمن والاستقرار في مدينة العلم والعلماء، حتى ولو تم القضاء على المجموعات المسلّحة، تدميراً أو توقيفاً، لأن الوضع الإجتماعي المتردّي في الأحياء الفقيرة، سيستمر في إفراز البطالة والجهل والفقر، مما يعني بقاء الشباب فريسة التطرّف والعنف الأعمى.
لم تعد تكفي اجتماعات السياسيين وبياناتهم التأييدية للجيش، لإيقاف نزيف الدم، ووضع نهاية لهذه المأساة المتكررة في طرابلس بالذات. ما يحتاجه الجيش الوطني للوقوف في وجه المدّ الإرهابي، والتصدّي لأخطاره، هو إعادة تعويم مشروع الدولة، وبأقصى سرعة ممكنة، من خلال توافق سياسي وطني يُعيد الهيبة للسلطة الشرعية، ويستعيد أدوار المؤسسات الدستورية المعطَّلة سواء رئاسة الجمهورية أم مجلس النواب، ورفع إرهاب الإجماع عن جلسات مجلس الوزراء.
كيف يمكن للجيش، أي جيش، أن يحارب ويدافع عن أمن البلد واستقراره، وظهره مكشوف بسبب عجز الطبقة السياسية، عن إدارة شؤون البلاد والعباد، والحفاظ على الحدّ الأدنى من مقوّمات الدولة الدستورية والشرعية.
لقد أصبح واضحاً أن هذا الضعف المتنامي للسلطة المركزية، ولتلاشي قواعد الدولة العميقة في لبنان، هو الذي يدفع بكثيرين، في الداخل كما في الخارج، على التهام دور الدولة من جهة، والاندفاع للحلول مكان إداراتها ومؤسساتها، من جهة ثانية.
المعركة المحتدمة في طرابلس، تختلف كثيراً، بالأبعاد والأهداف، وطبعاً بالمعطيات، عن معركة نهر البارد، التي كانت محصورة جغرافياً وسياسياً واجتماعياً، في دائرة محددة، يصعب الخروج منها.
وإذا كانت معركة نهر البارد قد أدّت إلى تدمير المخيّم بكامله، وتشريد سكانه إلى اليوم، فمن الصعوبة بمكان أن يتصرّف الجيش مع الأحياء التي تدور فيها الإشتباكات مثلما تصرّف في أحياء البارد.
* * *
معركة طرابلس قد تكون بداية حرب طويلة ضد الإرهاب.
فهل يخرج أهل السياسة عن أنانياتهم ومصالحهم، ويسارعون إلى ترميم مؤسسات الدولة، وطي صفحة خلافاتهم.. قبل فوات الأوان..؟