في اللحظة التي شعر فيها العدو الإسرائيلي بزلزال السابع من تشرين الأول، استنجد سريعاً بالولايات المتحدة الأميركية لتُنقذه من طوفان الأقصى، فقام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بإطلالته الأولى بتهديد الأميركي مباشرة بطوفان الأمة على مرأى العالم..
هذا ما فعله السيد نصرالله في خطابٍ وجّهه للأصيل بشكل مباشر، الذي يخشى امتداد الحرب التي لا يريد التورّط فيها، وتسعى “إسرائيل” لتوريطه، وهكذا كان مضمون الرد الأول على الخطاب من البيت الأبيض: “نحن لا نريد أن يمتد الصراع الى لبنان”، كلام يؤكد مدى أهمية وتأثير جبهة جنوب لبنان في الصراع، وإمكانية وقدرة المقاومة الإسلامية بتحديد مصيره..
هذه الجبهة دخلت المعركة في الثامن من تشرين الأول لإسناد غزة ولتشتيت تركيز العدو، وكان من الواضح أن خطوات المقاومة فيها تدريجية بدقة ووفق ما تتطلبه المرحلة، إلا أنها في الأصل هي بحدود أمرين:
– الأول: عدم الإنجرار الى حرب واسعة.
– الثاني: عدم إراحة “الاسرائيلي”.
مع العلم أن الخيار الأول ليس مرتبطاً بأداء المقاومة فقط ، إنما يَتحكّم فيه الإنضباط الصهيوني على الجبهة وتحمّله لحجم الخسائر غير المسبوقة التي يتلقّاها يومياً.
أما الخيار الثاني فتسعى المقاومة بشكل دائم الى تطويره، وتدفيع الجيش الصهيوني الأثمان، وتليين السواتر الحدودية التي تتشكّل من عدد كبير من المواقع العسكرية، كإجراء تحضيري يُسهِّل عمل المقاومة بحال أخذت قراراً باختراق الحدود.
وما شهدته الجبهة في المرحلة الأخيرة باستخدام الطائرات المفخخة، واستهداف مقر قيادة كتيبة الجليل بموقع زبدين، ومن ثم استخدام القوّة التدميرية بصواريخ قصيرة المدى، والإعلان الرسمي عن استخدام منظومة الدفاع الجوي وإسقاط مسيّرات “إسرائيلية”، كل ذلك يُعتبر من المؤشرات التي تؤكد قول أمين عام حزب الله أن الأمور لن تبقى على ما هي عليه.
فالإعلان عن استخدام صواريخ بركان بعد الخطاب، يعني أن المقاومة تمتلك جدولاً منُسَّقاً باستخدام أسلحتها بما لا يُضر بالمفاجآت، التي يجب أن تبقى مُدّخرة الى وقت الحرب المفتوحة. وبعد أن أعلن السيد نصرالله عن قناعته بجدوى الإنتصار عبر مراكمة النقاط وليس بالضربة القاضية، فإنه ليس من المتوقّع قيام المقاومة بتغيير جذري في أدائها يَخرج عن دائرة الإستنزاف مع الحفاظ على الغموض البنّاء، ما يعني أن الكشف عن النوايا المُضمَرة والخطوط الحمراء التي تتبنّاها المقاومة، سيكون تهديماً لعامل الرعب الذي تحرص المقاومة على بقائه بمواجهة العدو، وبالتالي إراحة العدو في الهامش ما بين عدوانه الآن والخطوط الحمراء.
فالغموض هنا، هو لمنع العدو من التمادي مع بقاء توقّعه أنه اقترب من الخط الأحمر وإن كان هذا الأمر لا يُعجب بعض المتحمّسين، إلا أنه من مقتضيات الحكمة المطلوبة بإدارة صراع وجودي طويل الأمد، أهدافه القصوى تحتاج الى كثير من الصبر والذكاء والثقة ومراكمة عناصر القوّة..
وفي شأن التطور الأخير الذي تَمثّل بالإستهداف المباشر للمدنيين على طريق عيناتا – عيترون، ما أدى الى استشهاد أربعة بينهم ثلاث فتيات أكبرهم تبلغ من العمر ١٤ عاماً، فبغض النظر عن أبعاد هذه المجزرة والتطورات التي ستَلحق بها، جاء الرد من المقاومة بشكل سريع بإطلاق صواريخ يتبنّاها حزب الله بشكل رسمي للمرة الأولى على كريات شمونة، وهذه الصواريخ لها رمزيتها، لأنها هي نفسها التي فرضت معادلة حماية المدنيين في نيسان عام ١٩٩٦.
صحيح أن نوعية الصواريخ التي تمتلكها المقاومة قد تطوّرت كماً ونوعاً، إلا أن اختيار صواريخ كاتيوشا بالتحديد يمتلك رمزية حماية المدنيين. ومن الواضح أنه من أهم عناصر القرار عند قيادة المقاومة هو الحفاظ على دماء المدنيين ما أمكن، ولذلك اختارت المقاومة تكتيك المواجهة المباشرة مع المواقع العسكرية الصهيونية واستخدام الأسلحة المركَّزة رغم المخاطر التي تُحيط بعمل المقاومين، ولم يستخدموا الصواريخ لاستهداف بيوت المستوطنين حرصاً على تجنيب المدنيين في لبنان أية أكلاف في هذه المواجهة. وهذا قد يُفسِّر العدد الكبير من الشهداء الذي تُقدّمه المقاومة.
إذاً، يوماً بعد يوم تظهر استراتيجية المقاومة رغم غموضها في المواجهة مع العدو، ففي كل لحظة هناك توقّع للإعلان عن مفاجأة إن لناحية الإستهدافات، أو نوعية الأسلحة، أو لناحية القدرات التي ممكن أن تصل إليها في هذه المعركة. مشهد بعضه نراه وبعضه نتوقّعه يُقلِق ويُربِك “الإسرائيلي” والأميركي الذي يَستخدم كل أساليب التهديد، إلا أن رد السيد نصرالله كان واضحاً جداً بقدر غموضه البنّاء ، الذي يزيد من القلق الأميركي الذي يدفعه و”الإسرائيلي” الى السير بين الألغام، وهذا ما يضع الخطاب بإطاره الردعي الذي يُساعد على تعجيل الإكتفاء الأميركي بالزمن الذي أعطاه لنتنياهو للإنتقام، كمقدمة لإعادة ترميم الإدارة السياسية في الكيان التي قد يكون ضحيتها نتنياهو نفسه..