آفة المرض الهولندي خطر يواكب مرحلة الإستخراج وهيكلة الاقتصاد ضرورة
هل يُقر الاتفاق في المجلس النيابي أم بمرسوم حكومي يُرسل إلى الأمم المتحدة؟
لم يتوقّع المراقبون تسارع التطورات على صعيد ترسيم الحدود البحرية اللبنانية الجنوبية إلى هذا الحدّ. فبعد تسلّم لبنان نسخة عن إقتراح الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين، سلّم لبنان ردًا خطيًا يتضمّن ملاحظات على العرض الأميركي أغلب الظن أنها تدور حول التعويضات المالية التي تُطالب بها إسرائيل من إستخراج الغاز، والنقطة البرية B1 التي لا تزال تُثير بعض المخاوف في الجانب اللبناني. وتُشير المعلومات الصحفية إلى أن الحكومة الإسرائيلية المصغرة ستجتمع اليوم لدرس المقترح وإعطاء موقف رسمي منه.
وبحسب المعلومات المسرّبة، فإن مضمون الإقتراح ينصّ على إعطاء لبنان الخط 23 بالإضافة إلى حقل قانا بالكامل من دون اقتطاع أي جزء من الرقع النفطية اللبنانية 8 و9 و10. في المقابل تحتفظ إسرائيل بحقل كاريش كاملًا من دون أي إقتطاع منه ومن دون أيّة حقوق لبنانية على إستخراج الغاز من هذا الحقل. وتُضيف المعلومات أن خط الطوافات والمصنّفة على أنها منطقة آمنة، تبقى خاضعة للسيادة اللبنانية.
لكن ماذا عن التوقيع؟ هناك سيناريوهان:
السيناريو الأول وينص على أن يتمّ إرسال كتاب موافقة من قبل الحكومة اللبنانية مرفقًا بمرسوم كما حصل مع المرسوم 6433 من دون أن يكون هناك أي عملية تواصل مباشر أو غير مباشر مع العدو الإسرائيلي.
السيناريو الثاني وينص على توقيع إتفاقية تحمل توقيع الجانبين وبالتالي وعملًا بالدستور، يتوجّب إخضاع هذه الإتفاقية إلى موافقة المجلس النيابي نظرًا إلى أنها ترتب أعباءً مالية على الدولة اللبنانية من خلال مطالبة إسرائيل بحقوق إستخراج من المنطقة الإقتصادية الخالصة التابعة للبنان.
في كلا الحالتين، فإن الإتفاقية أو المرسوم من الجانبين سيتمّ تسجيله في الأمم المتحدة ويُصبح مستندا رسميا لأي خلاف مستقبلي حيث يتمّ اللجوء اليه.
عمليًا، أسئلة كثيرة تُطرح حول الظروف التي واكبت المفاوضات وخصوصًا فيما يتعلّق بإعتماد الخط 23 مع العلم أن حقوق لبنان بالخط 29 مؤكدة عمليًا ومع العلم أيضًا أن لبنان كان إستحصل على أكثر من الخط 29 في إطار إتفاق 17 أيار. هذه الأسئلة لا يُمكن الردّ عليها إلا من قبل المعنيين.
على كل الأحوال، حجم الغاز في هذه المنطقة هائل، وكنا قد قدّرناه سابقًا بعدّة عشرات من مليارات الدولارات مرشّحة للإرتفاع خصوصًا مع الطابع الجيولوجي للشاطئ اللبناني والذي يجعله غنيًا بمكامن الغاز. وبالتالي فإن البدء بالتنقيب عن الغاز في الرقع 8 و9 و10 وحقل قانا، هو أمر مُلحّ نظرًا إلى التداعيات التي ستنسحب على الاقتصاد اللبناني.
وبالحديث عن المفاعيل على الاقتصاد اللبناني، فإن البدء بإستخراج الغاز بالهيكلية الحالية للإقتصاد اللبناني، ستؤدّي حكمًا إلى وقوع لبنان تحت تأثير آفة المرض الهولندي. هذه الآفة تضرب الإقتصادات التي تُصدّر النفط والغاز وتأتي نتيجة تقوية العملة الوطنية على حساب الصادرات الصناعية والزراعية التي تفقد تنافسيتها بسبب قوة العملة الوطنية. وإذا ما أضفنا التضخم الذي ينتج عن تدفق العملات الصعبة، نرى أن الصادرات التقليدية (صناعية، زراعية، وخدماتية) تفقد من تنافسيتها مع نظيراتها من الدول الأخرى.
من هذا المنطلق، يأتي خلق الصندوق السيادي لكي يُشكّل ردًا على هذه المشكلة من باب أن قسما من العائدات تذهب إلى خارج الاقتصاد اللبناني مما يسمح له بالعمل في ظلّ ظروف طبيعية أفضل.
تُشدّد النظرية الإقتصادية على الدور الإقتصادي للصندوق السيادي. هذا الدور هو دور إقتصادي بحت وكل قول عكس ذلك هو أمر مُنافي لأصول إدارة الصناديق السيادية في العالم. أضف إلى ذلك خصوصية الواقع اللبناني مع تواجد عاملين أساسيين يُمكن تصنيفهما بعلّة العلل: الإنقسام المذهبي والفساد المستشري. من هنا نرى أن إستخدام مداخيل الثروة النفطية في الإنفاق الجاري هو حرق للثروة النفطية وجريمة بحق الأجيال المستقبلية حيث تؤكّد بعض الأبحاث العلمية على أن فكرة الصندوق السيادي وّلدت من منظار ضمان حقوق الأجيال المستقبلية.
وقد أثبت التاريخ صوابية هذه النظرية من ناحية أن البلدان التي أنشأت صناديق سيادية (عددها يفوق الـ 50 والكويت كانت الأولى في العام 1953) أمّنت حياة رفاهية للأجيال التي تلتّ على مثال الصندوق السيادي القطري (Qatar Investment Authority) الذي من المتوقع أن تؤمّن عائداته الإستثمارية في الأعوام القادمة تمويل كامل للميزانية القطرية وذلك من دون أي يكون للنفط والغاز أي دور في ذلك.
في الواقع، كل عائدات إستخراج الغاز يجب أن تذهب إلى الصندوق السيادي بهدف الإستثمار في الإقتصاد اللبناني تسمحّ بتكبير حجمه ولا تُستخّدم بأي شكلٍ من الأشكال لسدّ الإنفاق الجاري أو سدّ الديون تحت طائلة حرق هذه الثروة، ولكن أيضًا بهدف الإستثمار في إستثمارات خارجية تؤمن مدخولًا متنوعًا. هذا الصندوق يكون ملك الدولة اللبنانية، لكن إدارته تعود إلى مجّلس إدارة (مثلًا مُكوّن من عشرة أشخاص، 5 منهم من القطاع العام و5 أشخاص من القطاع الخاص)، هذا المجلس له دور توجيهي من ناحية أنه يضع قيودًا على نوع الإستثمارات وتنويعها الجغرافي وعملات الأصول… ويُعهد بإدارة الصندوق الفعلية إلى مصارف إستثمارية عالمية يتمّ إختيارها من بين المصارف ذات خبرة مؤكّدة. ويُعهد التدقيق في حسابات الصندوق وإدارته إلى شركة تدقيق عالمية تضع تقريرًا سنويًا بين أيدي مجلس الإدارة ولكن أيضًا بيد الشعب اللبناني وذلك لضمان شفافية مُطلقة في إدارة هذا الصندوق. أما عائدات إستثمارات الصندوق فتذهب حصرًا إلى الخزينة العامة ويتم إستثمارها في القطاعات الاقتصادية والصحية والتربوية والإجتماعية.
هذه المنهجية في العمل تضّمن فوائد عديدة نذكرّ منها:
أولًا- على الصعيد المالي: الصندوق السيادي سيسمح للدولة بكسب مصداقية خصوصًا بعد تخلّفها عن دفع ديونها، ودخول الأسواق العالمية من الباب العريض وهو ما سيسمح لها بتخفيف كلفة الإقتراض حيث أن وجود الصندوق يُقلّل حكمًا من سعر الفائدة على سندات الخزينة. أيضًا سيسمح هذا الصندوق بإصدار سندات خزينة لصالح المودعين لضمان حقوقهم في المصارف التي إقترضتها الدوّلة وأنفقتها من دون قطوعات حساب.
ثانيًا- على الصعيد الإقتصادي: يُساعد الصندوق السيادي في حماية الاقتصاد من التضخّم، فدخول العملات الأجنبية من الخارج إلى الاقتصاد الوطني والناتج عن الصادرات النفطية والغازية، سيُخفّف من التضخّم الذي يضرب الاقتصاد اللبناني في المرحلة الأولى. إلا أن هذا التضخّم وفي ظل عدم وجود هيكلية إقتصادية مؤاتيه، سيُعاود الإرتفاع بحكم الإستهلاك المحلّي الناتج عن عائدات الغاز وبحكم توافد رؤوس الأموال إلى القطاع المصرفي.
للتذكير أن الآلية التي يلجمّ من خلالها الصندوق السيادي التضخم هي بكل بساطة آلية تخفيف تدفق صافي الأموال بالعملات الأجنبية الى الاقتصاد الوطني. إذ من المعروف أن الصندوق السيادي والذي يستثّمر عادة في إقتصادات خارجية، يُخفف من وطأة دخول الأموال بالعملات الأجنبية وبالتالي يلجم التضخم.
وبالتالي، فإن الصندوق السيادي يدفع إلى حفظ الثروة بالعملات الصعبة في الخارج وبالتالي، يُخفف الضغط على العملة الوطنية مما يعني تحّسين قدرة الدولة على التصدير. كما أن إستثمار عائدات الصندوق في القطاعات الإنتاجية له مفعول إيجابي من ناحية تقوية الماكينة الإقتصادية التي ستستفيد من هذه العائدات. وإذا ما ترافق ضخ هذه العائدات في الاقتصاد مع خطّة إقتصادية تسمح بتنويع الماكينة الإقتصادية وتوزيعها بشكل عادل بين المناطق كافة، فإن الناتج المحلّي الإجمالي سينمو بشكل كبير كنتيجة لهذه الإستثمارات وبالتالي، فإن الفائض المحقّق من الموازنة يُستخدم في سدّ الدين العام وزيادة الإستثمارات.
ثالثًا- على الصعيد الإجتماعي: إن إستثمار عائدات الصندوق السيادي بشكل يسمح بتأمين إنماء متوازن، يؤدّي بدون أدّنى شكّ إلى عدالة إجتماعية أفضّل وذلك من خلال خلق وظائف في جميع المناطق وبالتالي توزيع الثروة بواسطة الماكينة الإقتصادية بشكل عادل على جميع أفراد المجتمع. كما أن الإستثمارات في البنى التحتية تؤمّن رخاءً إجتماعيًا كبيرًا يستفيد منه المواطن (قطارات، أو جسور، أو سدود، أو طرقات…).
رابعًا- على الصعيد الإداري: إمتلاك صندوق سيادي يفرض إمتلاك سياسة مالية شفّافة وبالتالي يزيد من الشفافية ومن الحوكمة الرشيدة. وبحسب شركة PWC فإن دخول مداخيل النفط والغاز إلى الصندوق السيادي يُقلّل من سلطة السياسيين على هذه الأموال.
وبالتالي، نرى أهمّية فصل الصندوق السيادي عن الإنقسامات السياسية ومُحاولة وضع إدارته تحت سلطة هذا الفريق أو ذاك، إذ يكفي إحترام الهيكلية العملية المنصوص عليها أعلاه لضمان مداخيل ثابتة وأكيدة للأجيال الحالية والمستقبلية.
فور البدء بالتنقيب عن الغاز في البحر، هناك فوائد فورية للصندوق، وعلى رأسها سهولة الإقتراض للخروج من الأزمة الحالية ودعم العملة الوطنية… وغيرها. إلا أن هذا الأمر لا يُمكن أي يسلك مسارًا صحيحًا إذا لم يتم القيام بالإصلاحات الإقتصادية والمالية والنقدية والإدارية. هذه الإصلاحات أصبحت ممرًا إلزاميًا سواء إستخرج لبنان الغاز أم لم يستخرجه، حيث أصبح معروفًا لدى الجميع إستحالة إستمرار الوضع على ما هو عليه مع تكاثر عمليات الإقتحام للمصارف والضغط الاجتماعي والإقتصادي الهائل والتشرذم السياسي الذي يُبقي لبنان في مصاف الدول المتخلّفة. هيكلة الاقتصاد خصوصًا من ناحية توجيه القطاع الصناعي والخدماتي نحو المنتجات التي يحتاجها بلد نفطي هو أمر ضروري. فعلى سبيل المثال، يتوجب بدء العمل على خلق بنى تحتية، وصناعات بتروكيماوية، ومصافي تكرير، وخدمات تطال الإنترنت والفنادق والكثير من القطاعات الأخرى التي يحتاجها البلد لمواكبة الاقتصاد النفطي.