دونالد ترامب رئيس الولايات الأميركيّة المتحدة، عنوان اللحظة الجديدة المطلة على العالم، أو المساهمة ربما في صناعة العالم الجديد بالمشاركة مع روسيا. من واكب ولادة اللحظة فهم أنّ شيئًا ما قد تغيّر، وما قد تغيّر أنّ النهج الجديد سيتمكّن من فرض قواه بالعناصر المؤلّفة له، والتي سطع من تكوينها له.
ثمّة قراءات حيكت واكبت معركة ترامب الانتخابيّة، فطورًا ظهر شيوعيًّا، وتارّة يمينيًّا متطرّفًا. كلّ التوصيفات المساقة ما كانت سوى أدوات متسلسلة لإدارة الصراع معه وجعله أكثر ألقًا أو تألقًا. لكنّ الحقيقة وبحسب ما تمّت متابعته أنّ دونالد ترامب يملك في عقله ثابتتين واضحتين تبدوان كمسلمتين إيديولوجيتين تسكنانه ولعلهما مكونتان للحظته هو، وهما أنّه موافق تمامًا على القراءة والرؤية الروسيّة للتطرّف الإسلاميّ في سوريا، وانعكاسه على العالم بأسره، ومعاداته بالتحديد للتطرّف الإسلاميّ وليس للإسلام، لتبدأ معه مرحلة قال عنها أحد النقاد الأميركيين إنّها مرحلة تأسيس لعالم يمينيّ متطرّف بدأ بالولايات الأميركيّة المتحدة وسيصبّ باتجاه فرنسا مع حراك ماري إبنة جان ماري لوبن، والتي بدورها تستعدّ لخوض معركة شرسة في فرنسا في مراحل مقبلة، وهي الفرحة بفوز ترامب كما عبّرت، وكلاهما يتشاركان في مواجهة الإسلاموفوبيا بشقّها الإيديولوجيّ وانبساطها البيولوجيّ أو الديموغرافيّ وثقلها السياسيّ-التكفيريّ المتوسّع باتجاه القارة الأوروبيّة، والمتغلغل بنسبة واضحة في الولايات الأميركيّة المتحدة، وفي الوقت عينه إنّ ترامب ولوبن معجبان حتى الانبهار بشخصيّة الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين لدرجة اعتبار بعضهم بان انتصار دونالد ترامب كان بحدّ ذاته انتصارًا لخيار فلاديمير بوتين.
ما ميّز ترامب عن منافسته هيلاري كلينتون أنّ الأخيرة قد اعترفت في مذكراتها بانّ تنظيم القاعدة كان من إنتاج فريقها وصناعته. بمعنى أن منطق الإسلاموفوبيا بأسره كان زرعًا اميركيًّا-إسرائيليًّا، مساهمًا بما سمّاه شارل ديريداCharles Derrida الفيلسوف الفرنسيّ بالفلسفة التفكيكيّة القائمة على تفكيك الرموز، وقد استهلكت في غير موضعها باتجاه تفكيك الدول والمذاهب ضمن فلسفة سياسيّة، انتهجت الحروب المذهبيّة والإتنيّة والقوميّة وما إلى ذلك. ويروي بعض المراجع أنّ هيلاري كلينتون حين كانت وزيرة الخارجية في الولايات الأميركية كانت مع وكالة الاستخبارات الأميركية ممن ساهموا باستيلاد التنظيمات الإسلاموية على مختلف مسمياتها، واشترك الموساد الإسرائيلي بذلك وساهم السعوديون بالتمويل والتموين. فيما ترامب اعتمدت أدبياته على مواجهة هؤلاء، واعتبر أنّ وجودهم وبالاً على العالم، ومن أهمّ ما قاله خلال المنافسة بينه وبين كلينتون بأنها هي صاحبة نظرية وجود وزرع تلك التنظيمات في الشرق الأوسط، وقد انعكست رعبًا وخوفًا وإرهابًا في الداخل الأميركيّ والأوروبيّ، بتجسيد واضح كلّف نزف دماء غزيرة. التمييز هذا ساند ترامب كثيرًا في معركته الداخليّة في ظلّ اشتداد توق الأميركيين وكثافة ندائهم من أجل درء الإرهاب التكفيريّ عن الداخل الأميركيّ، وقد ظهر هذا في أكثر من موقع وولاية.
يعتلي دونالد ترامب سدّة الرئاسة الأميركيّة، والداخل الأميركيّ يعيش لحظات ومراحل دقيقة على المستويات الاقتصادية والمالية والاجتماعيّة، ومع ازدياد الدين العام وقد تمّ تخفيفه شيئًا فشيئًا خلال الحرب على الإرهاب وقبلها خلال الانقضاض على الرئيس الليبيّ معمّر القذّافي، من المال الخليجيّ وبخاصّة السعوديّ كثمن لكلّ غارة أميركيّة. وقد جاء النقد بأنّ الإدارة الأميركية وسّعت دائرتها بانكبابها المطلق على السياسة الخارجيّة على حساب السياسة الداخليّة وإيجاد الحلول للمسائل الاجتماعية والاقتصادية. فلا يكفي أن تظهر الإدارة الأميركية قوّتها على المستوى الكونيّ وهي مجوّفة في الداخل. في هذا السياق، يقول بعض من واكبوا أدبيات ترامب الانتخابيّة والصابية لمرحلة ما بعد الانتخابات، بأنّ استراتيجيّته ستقوم على كثير من التوازن ما بين الانكباب على الاستمرار في جذب العالم كلّه نحو أميركا، وإيجاد الحلول الداخليّة. لقد فهم الرجل في جولاته الانتخابيّة على الولايات الأميركيّة التي زارها، فداحة هذا الأمر في ظلّ تراكم التمييز العنصريّ والعرقيّ والدينيّ، وأدرك في معرض قراءته وعلى الرغم من تشدّده تجاه كلّ تطرف بان استهلاكه حتى في مسار التمييز العنصريّ يدخل المجتمع الأميركيّ في دائرة العنف، وبإمكان هذا العنف أن يتراكم بحجج شتّى ومواصفات عديدة ومختلفة. يؤكّد خطابه صبيحة إعلان فوزه بحسب التوقيت اللبنانيّ وفي الفجر بحسب التوقيت الأميركيّ، أنّه ذاهب نحو مصالحات داخليّة باستحضار الرؤية المتوازنة بانبثاثها العموديّ وانبساطها الأفقيّ، في اللحظة التي قال فيها أنا رئيس لكلّ الأميركيين، وقد كانت غائبّة في صرخاته الثورويّة، والمتمركزة أحيانًا كثيرة بقوالب عنصريّة مشتنجّة لحاجات انتخابيّة.
ستكون أميركا أمام مرحلة جديدة. من نوافل القول بأنّ المبدأ الاستراتيجيّ المتّبع على مستوى الإدارة الأميركيّة هو هو ولا يتغيّر في قراءته العالم بأحواله واحداثه. لم تتغلّب ولا مرّة النظرة الشخصيّة للرؤساء على القواعد القائمة في صلب الاستراتيجيّة المتّبعة، بسياقات عديدة. فعلى سبيل المثال لا الحصر لم تتغلّب نظرة باراك أوباما الشخصيّة تجاه السعوديّة الشديدة اللوم على إدارة لا تزال تتعاون معها ولو بمنسوب اخفّ من السابق. لم تتأثّر الإدارة الأميركية بالخلاف بين أوباما وبنيامين نتنياهو بدليل أن نتنياهو زار الولايات الأميركيّة في عزّ الخلاف وخطب في الكونغرس وإقيمت له المشاهد الاحتفالية والاستقبالات الحافلة متجاهلاً موقف أوباما. الثوابت الأميركيّة ظلّت خلال القرن الماضي حتّى تلك اللحظات على واقعها. أّما على مستوى مشهد العلاقة الأميركيّة-السعوديّة، فإن ترامب سيتمسّك حتمًا بقانون جاستا وقد أقرّ بأكثريّة جمهوريّة، وهذا دليل على بداءة تغييرات محتملة، وتعتقد بعض الأوساط المتابعة، بأنّ المشهد الخارجيّ واستنادًا إلى قانون جاستا سيختلف بالكليّة عن بعض القوالب الجامدة التي كانت سائدة على مستوى قراءة الإدارة الأميركيّة السابقة لمجريات الأحداث للشرق الأوسط. وتبرز بعض التحليلات بأن دونالد ترامب وانطلاقًا من أدبياته المعادية لكل القوالب التكفيريّة سيتشدّد أكثر في مفهوم الحرب على الإرهاب، وسيجد نفسه وعلى عكس النظرية الاستثمارية في مقلب مغاير ومختلف قائم على نظرية الثنائيّ بوتين-لافروف، عنوانه الحرب الجذوريّة على الإرهاب التكفيريّ في سوريا والعراق وفي كل مكان.
من هنا، لم يكن إعجابه بالرئيس بوتين كلامًا عابرًا، بل هو إشارة واضحة بالتماهي الحقيقيّ مع رؤية سينتهجها ترامب من أجل هذا الهدف. فالمشهد الأوّل كان واضحًا بالتنافس البارد حينًا والساخن أحيانًا بين الأميركيين والروس، استعملت فيه كافة الأسلحة الاستراتيجيّة والتكتيكيّة في الدوائر الأوكرانية والجيورجيّة والسوريّة، وتوسّعت نحو السعوديّة باستهلاك العنصر المذهبيّ ضمن العنوان الأميركيّ الاستهلاكيّ المستنهض لعناصر المعارضة المتوحّشة بوجه بشار الأسد وحزب الله وإيران كمحاولة للتخفيف من وطأة الاتفاق الإيرانيّ-الدوليّ، فيما جاءت النتائج على عكس ما اشتهت الإدارة السابقة، فترسّخ هذا المحور أكثر فاكثر بفضل دخول روسيا إلى سوريا، والتحوّل الجذريّ في السياسة التركية، وكلّ هذا سببه التشدّد الأميركيّ المفرط وعدم استشراف النتائج مسبقًا فكرّرت إدارة أوباما في سوريا أخطاء بوش، من دون احتساب موضوعيّ لتداعيات النتائج ليس في الداخل السوريّ أو العراقيّ، بل في الداخل الأميركيّ وفي دائرة حلف الناتو ورسوخه بحدّ ذاته كوعاء متشترك في إنتاج وعاء أمني آخر للعالم. أمّا المشهد الثاني فسيكون مختلفًا بالضرورة أي إنقلابيًّا وبحسب بعض الاستنتاجات، عنوانه التشدّدد في مواجهة الإرهاب التكفيريّ، وهو مصلحة أميركيّة – روسيّة مشتركة، وسينقض ترامب مع إدارته الجديدة على مبدأ الحرب الاستثمارية، ويبدّلها بحرب جذوريّة تسرّع مع الروس عن طريق الميدان في إنضاج تسوية سياسيّة لسوريا والعراق، وقد بدأت بلبنان بانتخاب رئيس له على ما أسلفنا في مقالات سابقة. وفي الوقت عينه لقد انطلقت عاصفة الشمال السوريّ وجاءت متماهية مع وصول ترامب، وفي إحدى حملاته الانتخابيّة، لم يمانع ترامب على الإطلاق ببقاء الرئيس بشار الأسد، وما كانت نظرته عدائيّة تجاهه، فهي خالية من العداء ولكنها حاوية لمودّة قد تنبلج رويدًا رويدًا.
لن تكون الإدارة الأميركيّة الجديدة ومع الرئيس الجديد دونالد ترامب وبهذا المعنى، بسياقاتها وقراءتها للشرق الأوسط استكمالا لإدارة باراك أوباما. التاريخ ينقلب نحو مطبّ جديد بالعبر والرؤى والمعاني. وغالب الظنّ أن الإقليم المتوتّر والشرق الأوسط سيشهد تسوية نهائيّة، سترسم الإدارة الأميركية الجديدة خريطتها السياسيّة بالتشارك الكامل مع روسيا وإيران، محتوياتها، قمع الإرهاب وضربه، حلّ القضية السوريّة بأطر سياسيّة تشاركيّة جديدة يكون الرئيس السوريّ جزءًا أساسيًّا وكبيرًا منها، حلّ النزاع العربيّ-الإسرائيليّ وفقًا لمبادئ أوسلو وقمة بيروت سنة 2003.
أمّا على المستوى اللبنانيّ فإنّ بعض اللبنانيين قرأوا وجود الدكتور وليد فارس في قلب المشهد الأميركيّ علامة جديدة منصفة لهم، ووليد فارس معروف بيمينيته المتطرّفة، ما لم يفهموه بأنّ فارس وإن تميّز بصداقته الشخصيّة لترامب وهو برتبة مستشار له، لكن على المستوى الاستراتيجيّ فهو لا يملك قدرة التأثير الكامل إذا بدا لبعضهم أنّه سيشجّع صديقه ترامب على استمرار معاداة سوريا وإستكمال عناصر النزاع مع حزب الله وتشديد العقوبات عليه، لن يولد دونالد ترامب من كتابة وليد فارس والارتكاز على ذلك ضرب من الخيال ونوع من التسطيح.
العالم أمام مشهد جديد، بل قد يكون أمام انقلاب جذريّ في معنى القراءة الأميركيّة لأميركا نفسها وعلاقاتها بالخارج ولمسألة الشرق الأوسط. إنها مرحلة التحضير للتسويات التي تخرج المنطقة من بؤرة الدمار إلى عملية البناء ومن ثورة النار إلى آفاق الحلول السياسيّة، ومن الحروب المتنقلة إلى السلام، لكن ليس السلام المفقود على طريقة كريم بقرادوني، بل السلام العادل والشامل.