IMLebanon

الدولة تخضع لضغوط الدائنين: العودة إلى وصفة البنك الدولي

 

تصريحات وزير المال علي حسن خليل عن إعادة هيكلة الدين العام استدعت أن يدعو رئيس الجمهورية ميشال عون إلى اجتماع مالي عاجل خلص إلى شطب فكرة إعادة هيكلة الدين العام من التداول، والاكتفاء بإعلان التزام لبنان بوصفة البنك الدولي التي أقرّت في مؤتمر ”سيدر“ وفي موازنة 2018: المساس بالدين العام ممنوع!

 

عقد أمس اجتماع عاجل في القصر الجمهوري برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون، وبحضور رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، ووزير المال علي حسن خليل، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ووزير الاقتصاد رائد خوري، ورئيس لجنة المال والموازنة النيابية ابراهيم كنعان، ورئيس جمعية المصارف جوزيف طربيه.

مقالات مرتبطة

إعادة هيكلة الدين… حتمية! ابراهيم الأمين

الدعوة إلى عقد الاجتماع كانت عاجلة من أجل استباق افتتاح الأسواق المالية صباح اليوم بعد تصريحات وزير المال عن إعادة هيكلة الدين العام (في تصريحه لـ«الأخبار» يوم 10 كانون الثاني 2019) وعن إعادة جدولة الدين العام بالتنسيق مع مصرف لبنان والمصارف (في اليوم التالي). استدعى هذا الأمر أن يقطع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة زيارته لباريس والعودة مبكراً إلى بيروت للمشاركة في الاجتماع.

أما الهدف من الاجتماع، فهو أن يتمكن لبنان من «استعادة الثقة الدولية التي فقدها بسبب التصريحين، وحماية المصارف من مخاطر الانهيار في أسواق سندات اليوروبوندز» وفق مصادر معنية، إذ لم يكن هناك قدرة على تهدئة الأسواق الدولية من دون إظهار موقف موحد من أعلى السلطات في لبنان تؤكد التزام لبنان بوصفة البنك الدولي التي التزم بها لبنان في مشروع موازنة 2018 وفي مؤتمر «سيدر».

 

مصادر مصرفية: الحديث عن هيكلة الدين كبّد المصارف خسائر بقيمة 500 مليون دولار(مروان بوحيدر)

 

عملياً، هذا الاجتماع يشكّل محاولة لامتصاص نتائج تصريحات خليل تمهيداً لحماية أرباح المصارف من أي إجراءات وتدابير قد تتخذها الدولة في مواجهة أزمتها المالية. وليس ذلك فحسب، بل إن الاجتماع ذهب في الاتجاه المعاكس تماماً، أي إنه حسم مسبقاً توزيع الأعباء الناتجة عن عملية التصحيح المالي وتحميل الشرائح الأقل قدرة في المجتمع الحصّة الأكبر من فاتورة التصحيح من خلال ما ورد في مؤتمر «سيدر» من إجراءات تضرب الأجور والرواتب في القطاع العام، وتركّز على بيع أصول الدولة وخصخصتها، بالإضافة إلى فرض ضرائب من أبرزها زيادة ضريبة القيمة المضافة بالإضافة إلى ضريبة على استهلاك البنزين… بكلام آخر، الاجتماع قرّر أن يعفي أصحاب الرساميل من حصّتهم في الفاتورة، وأن يشطب الحديث عن خفض الدين العام كمدخل لاستقرار لبنان مالياً واقتصادياً واجتماعياً. هو يقتل الفرصة الحقيقية في وجود إصلاح فعلي ينتج عنه إعادة توزيع عادلة للأعباء بين شرائح المجتمع من خلال العودة إلى الإجراءات التي تمسّ الفئات الأفقر في لبنان.

وكترجمة عملية لهذا الاجتماع، قرأ وزير المال بياناً متفقاً عليه بين أطراف الاجتماع يشير فيه إلى الآتي:

– موضوع إعادة هيكلة الدين العام غير مطروح على الاطلاق، فالدولة اللبنانية ملتزمة تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً المحافظة على حقوق المودعين والمصارف وحاملي مختلف سندات الدين السيادية، وذلك تقيّداً بتسديد الاستحقاقات والفوائد في التواريخ المحددة لذلك من دون أي إجراء آخر.

– إن ما هو مطروح حالياً هو تنفيذ الاصلاحات التي اقترنت بها موازنة 2018 من جهة، ومن جهة أخرى ما التزمت به الدولة اللبنانية في مؤتمر سيدر وأبرزها: تحقيق الشراكة بين القطاعين العام والخاص، ضبط الإنفاق العام وترشيده وخفض عجز الموازنة واستطراداً تأمين التوازن المالي، تعزيز وتنويع القطاعات المنتجة في لبنان.

وكانت الأسواق الدولية قد تلقت خبر إعادة الهيكلة وإعادة الجدولة على أنها «مؤشّر خطير على إمكانية تخلّف لبنان عن سداد ديونه»، فيما هناك استحقاقات بالليرة اللبنانية وبالعملات الأجنبية في عام 2019 تزيد على 15 مليار دولار، بينها أكثر من أربعة مليارات بالدولار الأميركي. كذلك، جاء التصريح في خضمّ أزمة نزف احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية بعدما بلغ العجز في ميزان المدفوعات نحو 4 مليارات دولار في نهاية تشرين الثاني. وهذا الرقم لا يعكس كل الحقيقة، بل هو خلاصة صافي تدفق رؤوس الأموال الداخلة إلى لبنان والخارجة منه بالإضافة إلى «التلاعب» الذي قام به مصرف لبنان في مطلع هذه السنة وإدخال عناصر جديدة على احتساب ميزان المدفوعات تتيح له تخفيف العجز.

ويأتي هذا الاجتماع ليؤكد أن قوى السلطة تحمي الفئات التي كان النظام يسخّر اقتصاد لبنان بكامله من أجلها، أي المصارف بالدرجة الأولى والمضاربات العقارية بالدرجة الثانية. فقد كان مصرف لبنان يعمل طوال السنوات الثلاث الماضية على تعزيز أوضاع هذه الفئات من خلال سلسلة إجراءات أبرزها الهندسات المالية التي حققت أرباحاً طائلة للمصارف بحجّة تحفيزها على استقطاب الدولارات من الخارج، ثم رفع أسعار الفوائد لإغراء الودائع، وتجفيف السيولة بالليرة والدولار من السوق لكبح الطلب على الدولار والتخفيف من حجم التحويلات إلى الخارج.

وعندما بدأ الكلام عن خفض الدين العام، برزت قدرة هذه الفئات على أخذ الأمور في اتجاه الأسوأ، إذ انهارت أسعار سندات اليوروبوندز المتداولة في الأسواق الدولية بنحو 10%، ما أدى إلى عرض السندات من قبل صناديق الاستثمار الأجنبية للبيع بأسعار منخفضة لتجنّب خسائر مستقبلية تتعلق بإعادة الهيكلة أو إعادة الجدولة. تقول المصادر إن حجم التداول في السندات بلغ 800 مليون دولار خلال يومين فقط.

خلاصة اجتماع بعبدا أن من استفادوا من الدين العام محميون من دفع كلفة الإصلاح

 

واللافت أن مصرف لبنان أوعز إلى المصارف اللبنانية التي تحمل غالبية سندات اليوروبوندز، بأن تشتري السندات المعروضة للبيع، وهو قام ببعض عمليات الشراء أيضاً، «من أجل السيطرة على الهلع في السوق الدولية». وتبيّن أيضاً أن بعض هذه المصارف كان قد استدان بضمانة السندات التي يحملها في محفظته، ما دفع الدائنين إلى مطالبته بتعويض الخسائر. بحسب مصادر مصرفية، فإن حجم السندات التي يستدين عليها القطاع المصرفي يصل إلى 5 مليارات دولار، ما يعني أن هناك خسائر يجب على المصارف تغطيتها بقيمة 500 مليون دولار، وأن المصارف طلبت من مصرف لبنان إمدادها بهذا الحجم من العملات الأجنبية لتغطية الخسائر، ما يعني نزفاً إضافياً في ميزان المدفوعات لأن هذه المبالغ ستذهب من لبنان إلى الخارج.

لم تكن خطوة شراء السندات المعروضة للبيع كافية. فالمصارف نظمّت حملة تشير إلى أن قدرتها على استقطاب الدولارات صارت متدنية جداً إن لم تكن صفراً في ظل معدل نموّ متدن للودائع في لبنان، وأن هذا الأمر يرتّب عليها أيضاً أعباءً تتعلق بقدرتها على التعامل مع المصارف الأجنبية التي تفتح لها اعتمادات تجارية وتنفذ لحسابها عمليات المراسلة والتحويلات. وأظهرت الاتصالات التي جرت بين لبنان والخارج، سواء من مصرف لبنان أو وزارة المال أو المصارف، أن تداعيات التصريحين تزيد المخاطر إلى الحدود الحمراء التي لا يمكن تجاوزها إلا عبر رسالة واضحة من مستوى عال… هكذا ولد الاجتماع في قصر بعبدا، وعادت لغة المسؤولين إلى مسألة إصلاحات «سيدر» التي أقرّت في موازنة 2018. هذه الطبقة الحاكمة التي تطلب استعادة الثقة الدولية بها، هي نفسها التي تمنح المصارف أرباحاً طائلة، وهي نفسها التي أقرّت الموازنة ثم خرقت بنودها من خلال التوسّع في التوظيف الانتخابي، وفي الإنفاق الانتخابي، وهي نفسها التي تمنح نفسها حقّ توزيع أعباء الأزمة المالية على الشرائح الأكثر قهراً، وإعفاء الشرائح التي غرفت من الدين العام على مدى 25 عاماً.