تُعرّف الدولة، أيّ دولة، بأنها شعب يعيش على إقليم معين، ويخضع لسلطة سياسية معينة. هذا التعريف البسيط والاساسي يحتوي على العناصر والأركان الرئيسية التي لا بد منها لقيام أي دولة وهي: الشعب والإقليم والسلطة…
لن ندخل في النظريات التي ترفض هذا التعريف وتلك التي تؤيده، وهي كثيرة ومتشعّبة… وإنما كوننا شعب يعيش على إقليم معترف به ولديه سلطات متعددة ويطلق عليه اسم «الجمهورية اللبنانية».
وكوننا الأقنوم الأول والأساسي في هذه الأقانيم الثلاثة، ولا سلطة ولا دولة من دون شعب يُحكم ويُحاكم.
وكون الاقنوم الثالث من هذه الجمهورية، أي السلطة، وبكل أطيافها، تجاهلتنا وعملت منذ نشوء دولة لبنان الكبير ذات ايلول من العام 1920 على التحكم بنا تارة بذكاء ودهاء، وأحياناً كثيرة بالبطش والقوة… وكنا دائماً نُجدّد لها ونعمل عندها ومن اجلها.
وقد وصَل بها الامر في الآونة الاخيرة الى حدّ أنها باتت تظنّ أننا أصبحنا منقادين لرغباتها بشكل كلي، وأننا فقدنا كل أمل بإمكانية استبدالها بسلطة تحكم ولا تتسلّط، وما عدنا قادرين على مقاومتها او حتى الاستغناء عنها.
فراحت تلعب بالاستحقاقات الدستورية، هاربة من مواعيدها الملزمة سواء عبر تأجيلها الانتخابات النيابية وتمديدها لمجلس نيابي شبه معطّل، أو عبر تجاهلها للاستحقاق الرئاسي، ودخول أعضاء حكومتها في «كوما» التفسير البيزنطي للميثاقية اللبنانية… ونحن شهود زور على ذلك… ولو اكتفت بهذه المخالفات الدستورية، لكنّا وَجدنا لها أسباباً تخفيفية كون لبنان يعيش في منطقة تُرسم حدودها مجدداً، ووطن الارز الصغير بمساحته والكبير بتعقيداته الداخلية لا بد أن يتأثّر بتطوراتها… غير أنّ هذا الركن في الدولة والمسؤول عن الفساد والهريان وارتفاع الدين العام وحجمه المتضخم من دون ضوابط لتاريخه، راح يتلاعب بصحتنا وبيئتنا وتكاليف معيشتنا… وهي مشاكل يومية لا علاقة للتطورات الخارجية بحلّها، ومن المفترض أن تقوم أيّ سلطة ومهما كانت سيئة بحلها، كونها تشكل خطراً داهماً وكبيراً على فكرة قيام الدولة.
فهذه السلطة مجتمعة، تريدنا أن نُصدّق أنّ مشكلة جمع النفايات ومعالجتها إنما هي تقنية بحتة، وأنها تعمل ليلاً ونهاراً وبكل أفرقائها لمعالجة هذه الأزمة التي تجتاح مدننا وشوارعنا، والتي ستخلّف وراءها أمراضاً مستعصية ومزمنة من الصعب التخلّص أو الشفاء منها.
بينما حقيقة المشكلة تبقى في الاختلاف على تقاسم المغانم بين أفراد هذه السلطة، والاتكال على صمتنا وضعفنا وانقسامنا، لإيجاد حلّ يُبعد النفايات عن أعيننا ولكنّه يُقرّبها من صحتنا ومياهنا وشواطئنا…
وركن السلطة هذا، يريدنا أن نقفل أعيننا عن بيئة يُعتدى عليها كل يوم من أجل مشاريع تخص المسؤولين عنّا، وتدرّ عليهم الارباح الطائلة، والتي تستعمل من اجل أن تمدّد الطبقة الحاكمة تحكّمها بنا.
مشاريع تطاول بحرنا الممنوع ارتياده من الفقراء، وجبالنا التي أصبحت جرداء قاحلة، ومجاري أنهارنا الملوّثة والتي أضحت سواقي تفيض مياهها مع سقوط الأمطار على طرقات تشبه حال دولتنا بتخلّفها واهترائها، طرقات تأكل من عمرنا ومن أيامنا وتفتك بأعصابنا وكأنّها قدر مستحيل علينا اجتيازه لنصل الى أعمالنا أو منازلنا…
طبقة سياسية تسرق مدّخراتنا وأموالنا من دون أن تؤمّن لنا أبسط حقوقنا… أزمة كهرباء ترافقنا منذ القرن العشرين وهي مستمرة معنا الى أجل غير مسمّى. مشكلة مياه مضحكة كوننا نتغنى بمياهنا، ومبكية كوننا لا نستطيع أن نشربها… وربما لن نستطيع يوماً.
رجال سلطة يسرقون احلامنا بقيام أحزاب حقيقية، فتتحول أغلبيتها الى مجموعة ملحقين برئيس يريد أن يحوّل حزبه الى ماكينة انتخابية تساعده على بقائه في السلطة، هو ومن ينتقيهم من أتباع ومتموّلين.
وعلى الرغم من هذا الحضيض الذي وصلنا إليه والتفكك والهريان، ما زلنا نحن الشعب، وكوننا ركن من اركان هذه الدولة نقول ونردّد إننا نعيش ضمن جمهورية إسمها لبنان… دولة يعيش فيها شعب تضطهده سلطاته وتنكّل به وهو راض وساكت من دون سبب. مع إدراكه أنّ هذه السلطة لن تقوده إلّا الى جمهورية فاشلة… جمهورية تقاوم الموت وتنتظر من شعبها ثورة قبل أن يأكلها النسيان…