بعد أن جُرِّب كل شيء من الانتخابات النيابية والرئاسية، إلى التعايش في الحكومات وصولاً إلى حكومات اللون الواحد، لم يعد من المُجدي مواصلة الشيء نفسه، إنما حان الوقت للاعتراف بأنّ الأزمة اللبنانية لا تعالَج بمعارضة كلاسيكية وموالاة، إنما بإثارة الإشكالية الأساسية: أي دولة للبنان نريد؟
جَوهر المواجهة منذ العام 2005 محوره الدولة التي كانت قبل هذا التاريخ مَمسوكة من النظام السوري بشكل كامل، وبعد خروج الجيش السوري من لبنان أصبحت هذه الدولة موزّعة بين 8 و 14 آذار، الأمر الذي جعلها في أكثر الأحيان معطّلة كونها لا تستطيع أصلاً ممارسة دورها في ظل قوة تمنعها من ذلك، ولأنّ التوازن الذي أحدَثته قوى 14 آذار منع قوى 8 آذار من استخدام الدولة لتصفية الحسابات مع فريق انتفاضة الاستقلال.
ويُخطئ مَن يقلِّل من أهمية هذا الجانب الذي يشكِّل الفارق الجوهري عن حقبة ما قبل العام 2005، والتفريط به يُعيد وضع الدولة كلها بيد الفريق الذي ورثَ عن النظام السوري وظيفة إبقاء لبنان ساحة من ساحات المواجهة، ولا خيار للمعارضة غيره لأنّ خروجها من المؤسسات من دون قرار إسقاط هذه المؤسسات يجعلها في قبضة خصومها ويحوِّلها إلى أداة ضدها، وبالتالي خوض الاستحقاقات الدستورية ليس خياراً لكنه أمر مُلزِم.
ولكن التجربة منذ العام 2005 دلّت الى 3 حقائق أساسية:
الحقيقة الأولى انّ المواجهة الدستورية ضرورية جداً مَنعاً لتمكين الممانعة من وضع يدها على الدولة، ولكن هذه المواجهة لن تؤدي إلى تغيير أوضاع سياسية، إنما تسجيل نقاط متبادلة تحت سقف سلاح «حزب الله».
الحقيقة الثانية انّ «حزب الله» ليس في وارد تسليم سلاحه، وكل كلام عن استراتيجية دفاعية وغيره مَضيعة للوقت ولزوم ما لا يلزم.
الحقيقة الثالثة انّ الرهان على تبدلات او تحولات خارجية يمكن حصوله وعدم حصوله، وأسوأ ما فيه انه يُفقِد القوى المحلية المبادرة وتُصبح في الموقع الانتظاري لتطورات خارجة عن سيطرتها، فيما دورها يكمن في المبادرة لإيجاد الحلول المناسبة للوضع اللبناني.
وانطلاقاً من ذلك، فإنّ المشكلة ليست في النظام القائم والمقصود و«ثيقة الوفاق الوطني» التي أُقرِّت في اتفاق الطائف، إنما المشكلة في الخروج عن هذا الاتفاق منذ العام 1990 إلى اليوم، ولم يعد مقبولاً ولا مسموحاً استمرار هذا الوضع إلى ما شاء الله، خصوصاً بعدما تبيّن انّ الفريق الذي يمنع قيام الدولة لن يتخلى عن دوره، كما انّ الرهان على تطورات قد تأتي او لا تأتي هو تَخلٍّ عن المسؤولية التي تتطلّب من القوى المعنية الذهاب إلى جوهر المشكلة والأزمة.
فهناك مَن اعتاد على تَرداد الأدبيات نفسها المتعلِّقة بالتمسُّك بالدستور والقرارات الدولية، وهذا أمر مهمّ ومطلوب، ولكنه لم يعد يكفي، لأنّ المطلوب تغيير أوضاع وليس البقاء ضمن الستاتيكو الذي يخدم الفريق المُعطِّل لقيام الدولة الفعلية، ولا بل الفريق الأخير اعتاد على الأدبيات المكررة ولم تعد تهمه ولا تؤثِّر في دوره. فيما حان الوقت، بعدما وصل لبنان إلى ما وصل إليه وتَثبّتَ الجميع من انّ التفاهم بين اللبنانيين على دولة ودستور ودور وسلاح واحد من سابع المستحيلات. وبالتالي، حان الوقت للانتقال من المعارضة الكلاسيكية التي تدعو إلى تطبيق اتفاق الطائف بشقّه السيادي والالتزام بالقرارات الدولية وغيرها، إلى المعارضة التي تدعو إلى وضع إشكالية أيّ دولة للبنان نريد على طاولة البحث الجدي، لأنه لم يعد من المُجدي المطالبة بتنفيذ ما لن يُنفّذ، إنما من الأجدى الدفع باتجاه تغيير قواعد اللعبة والمطالبات.
فأولوية الأولويات يجب ان تكون فتح النقاش في جوهر الأزمة اللبنانية التي يمكن ان يسمّيها البعض أزمة نظام او السؤال التاريخي للشيخ بيار الجميّل «أيّ لبنان نريد؟» او غيره، إنما الأساس عودة لبنان دولة طبيعية على امتداد مساحته الجغرافية او على جزء منها، وبالتالي رفض استمرار الستاتيكو الراهن المتواصِل منذ العام 2005، والذي يمكن ان يستمر فصولاً إلى ما شاء الله، ما يستوجِب نقل النقاش من تطبيق ما لم يُطبّق من الدستور ولن يُطبّق، إلى البحث في كيفية إنهاء الأزمة اللبنانية على قاعدتَي الوصل او الفصل. فإمّا الوصل على مساحة الـ10452 تحت سقف دولة واحدة ودستور واحد وسلاح واحد وأولوية واحدة هي لبنان ومصلحة شعبه فقط لا غير، وإمّا الفصل على قاعدة انّ أي مشروع سياسي خارج عن إطار المشروع الطبيعي المُعتمَد في اي دولة في العالم، ومن الصعوبة ضَمّه إلى مشروع الدولة، من الواجب الانفصال عنه.
فمن غير المسموح ان يتواصَل النقاش نفسه منذ العام 2005 عن سلاح «حزب الله» من دون الوصول إلى نتيجة، بين فريقٍ يتمسّك بهذا السلاح ويقدِّم الحجج التي لا تقنع الفريق الآخر المُصرّ على تسليمه للدولة تحقيقاً للمساواة بين اللبنانيين وسعياً لقيام دولة لا سلاح خارجها يعطِّل دورها ومؤسساتها، وقد أصبح النقاش في هذا الموضوع مُملاً ومن دون فائدة، والأسوأ انه قد يستمر لعقود من دون ان يتبدّل اي شيء، والدليل انه منذ 18 سنة يدور البلد في حلقة مفرغة ونقاش عقيم لا طائل منه، وقد يستمر 18 سنة أخرى على المنوال نفسه، والخطورة على هذا المستوى تكمُن في التراجع المتواصل للبلد وصمود أهله ويأسهم من البقاء وسط دولة فاشلة ووطن منكوب.
فما قيمة الحوار حول استراتيجية دفاعية طالما انّ هناك قناعة راسخة انّ «حزب الله» لن يسلِّم سلاحه؟ وما الفائدة من استمرار المواجهة بين فريق مع السلاح وفريق ضدّه طالما أن لا نتيجة لهذه المواجهة التي ستبقى في إطار الأخذ والردّ؟ وما الجدوى من رئاسة وحكومة ونيابة طالما انّ سلطاتها محدودة والقرار الفعلي خارجها وبناء دولة فعلية غير قابل للتحقُّق في ظل ازدواجية مشروع جمهورية لبنان ومشروع جمهورية إيرانية إسلامية؟
صحيح انّ مواصلة النضال من قلب المؤسسات مَطلوب بقوة مَنعاً لِوَضع اليد على هذه المؤسسات، ولكن لا أمل إطلاقا بعمل مؤسساتي فعلي وجدي، ومن هذا المنطلق لم يعد من المسموح ولا المقبول الدوران في الدائرة نفسها، إنما حان الوقت لاتفاق أوسَع شريحة ممكنة من القوى التي تريد دولة على مُقاربة جديدة عنوانها الخروج من اليوميات السياسية إلى طرح إشكالية: أيّ دولة للبنان نريد؟
فالتغيير الفعلي لن يتحقّق عن طريق الانتخابات النيابية والرئاسية، والهدف كله من هذه الاستحقاقات منع المُمانعة من وضع يدها على الدولة بالكامل، إنما التغيير الفعلي يتحقّق عندما يُصار إلى حَسم إشكالية أيّ دولة للبنان نريد، لأنّ الدولة الحالية أصبحت مَقبرة للبنانيين، إن كانت مَقبرة لطموحهم وأحلامهم وتطلعاتهم، أو مقبرة نتيجة فقرهم وجوعهم وعوزهم، أي الانتقال من الصراع تحت سقف هذه الدولة إلى صراع على هويّة الدولة المطلوبة.
ونُدرك انّ «المُومِنتم» لطرح هذه الإشكالية وتحويلها إلى عنوان لمرحلة معينة أساسي جداً، ويجب ان يكون في أقرب وقت ممكن في حال أصَرّ الفريق الممانع على منع انتخاب رئيس للجمهورية، وإمّا بعد الانتخابات الرئاسية مباشرة. ولكن ما يجب ان يتصدّر النقاش السياسي في المرحلة المقبلة السؤال الأساس: أيّ دولة للبنان نريد؟ وبالتالي أن يحصل الفرز السياسي على قاعدة تحديد هدف مرحلي واضح: إمّا توحيد البلد تحت سقف دولة واحدة، وإمّا الذهاب إلى دولتين: دولة الدستور والسيادة والمساواة، ودولة الميليشيا المُتحكِّمة بقرار الدولة.