Site icon IMLebanon

بيانات السفارات الخليجية أربكت المسؤولين اللبنانيين

 

المسؤولون اللبنانيون مندهشون، حائرون، يتهامسون، يتساءلون، يفكرون، يتخيّلون، مربكون ولكنهم يطمئنون. من الطبيعي أن يُصابَ المسؤولون اللبنانيون الرسميون في حالةٍ من الضَّياع والإرباك على أثر صدور تعاميم عن بعض دول الخليج العربي ودول صديقة تنبّه مواطنيها في لبنان لتوخّي الحذر، ووصل الأمرُ ببعضها لدعوتهم لمغادرة الأراضي اللبنانية في أسرع وقت. ويعزى ذلك لكون معظم المسؤولين غافلين أو شبه مغيَّبين عما يجري على السَّاحةِ اللبنانيَّة؛ إذ يكتفون بالوقوف موقف المُتفرِّج منها، بانتظار أن يأتي الفَرج من الخارج؛ وإن جرت محاولات خارجيَّة لحلحلة الأمور هبوا وكلٌّ من على مصطبته لرفض الحلول المطروحة، بغرض وضع العراقيل أمام عجلة الحل.

حصلت في الآونة الأخيرةِ أحداثٌ على درجةٍ كبيرة من الخطورة في أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان، الموجود على تخوم عاصمة الجنوب صيدا، ودامت قرابةَ الأسبوع، وسقط في معرضها العديد من القتلى والجرحى اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، إلّا أن الجهود اللبنانية اقتصرت على متابعة مخابرات الجيش اللبناني لتطورات ما يحصل، وذلك خشيةَ تمدُّد الإشتباكات المُسلَّحة إلى مخيمات أخرى منتشرة على الأراضي اللبنانية، وخلاف ذلك لم يرمش جفنٌ لأيٍّ من المسؤولين اللبنانيين، وكأن ما يحصل خارج دولتهم، ولا يستدعي أي اهتمام.

هذا الصَّمت المُريبُ الذي لازم السياسيين اللبنانيين حيال هذا الحدث الأمني، الذي أصيب جرائه بعض عناصر الجيش اللبناني، كاد يمرَّ مرور الكرام، لو أن الحادثَ حصل بصورةٍ عرضيَّة، وبقيت انعكاساته في إطار تَحرُّشاتٍ عسكرية استفزازيَّة محدودة الطَّابعِ ومن دون أي خلفيَّات إقليمية، حتى وولو كانت بين منظمة فتح من جهة ومنظَّماتٍ إسلاميَّةٍ سلفيَّةٍ (كما يطيب للبعضِ تسميتها) من جهةٍ أخرى.

منذ انطلاق الرصاصةِ الأولى لحادثِ الاغتيال الذي استهدف مسؤول الأمن الوطني الفلسطيني في لبنان الملقب بـ «أبو أشرف العرموشي» والذي أودى بحياته وحياة أربعة من مرافقيه، بدا أن الحادثَ مُدبَّر ومحضر له مسبقا، وليس بحادِثٍ عرضي، إذ إن الجهةَ المُنفِّذة كما تلك المتَّخذة للقرار تعي جيِّداً تبعات مثل هذا الفعل، وما قد يترتَّب عليه. وليس من العسير على أي متابع لما يحصل في مخيَّم صيدا وفي مختلف المخيَّمات الفلسطينيَّة، وللصِّراع الفلسطيني – الفلسطيني داخل الأراضي الفلسطينيَّة، أن يعي أن ثمَّةَ بوادرَ حدثٍ غير عادي قد أطلقت شراراته يستهدف تغيير المُعادلة في المخيَّمات الفلسطينيَّة، وبالتحديد في مخيَّم عين الحلة الذي يعتبر أكبر وأهم المخيمات الفلسطينية في لبنان.

أحداثُ مخيم عين الحلوة الداميةٍ والتي استعملت فيها أسلحةٌ خفيفةٌ ومتوسِّطة، وانخرطت فيها تنظيماتٌ فلسطينيَّةٌ عديدة أكثرها شهرةً وخطورةً وفي مقدمتها تنظيمي عصبة الأنصار وجند الشام الذي اتهم بتنفيذ عمليَّة اغتيال العرموشي؛ ولم تفلح الجهود المبذولة لإنهاء الإشكال رغم تداعي أعضاء هيئة العمل الفلسطيني المشترك للإجتماع في مقر حركة أمل (اللبنانية) في حارة صيدا المجاورة للمخيم، وتوصُّلها إلى اتفاق يقضي بوقف فوري لإطلاق النار بين جميع الأطراف المتقاتلة، وتشكيلها للجنة تحقيق فلسطينيَّة، تعمل بإشراف الهيئة المشار إليها، أوكل إلى اللجنة مهمة كشف جريمة الاغتيال وتسليم الفاعلين إلى الأجهزة المختصة في الدَّولة اللبنانية. ومن جهتها أدانت الرئاسة الفلسطينيَّة ما اعتبرته مجزرة ارتكبتها «مجموعات إرهابيَّة متطرِّفة»، وأعربت عن دعمها لجهود الحكومة اللبنانية في إطار فرض النِّظام والقانون على أراضيها بما في ذلك المخيمات الفلسطينية.

يكاد المحللون السياسيون والأمنيون والعسكريون الذين تناولوا التصعيد العسكري في مخيم عين الحلوة يجمعون على أن الحادث «الحدث» كان مدبراً، وكان الغرض منه كسر شوكة حركة فتح باعتبارها ذراع السُّلطة الفلسطينيَّة في لبنان، وتقليص نفوذها داخل المخيمات، تمهيدا لتمكين حركةِ حماس من الحلول محلَّها، وكانت الخطَّةُ تقضي بوضع المنَّظمات الفلسطينيَّة السَّلفية في الواجهة، وتكليفها بإطلاق شرارة الأزمة بضربةٍ موجعةٍ لحركة فتح على أن تتكفَّل باقي القوى التي تقفُ خلف السَّلفيين وتوفر لهم الدَّعم باستكمال المعركة وتأمين متطلباتها من أسلحة وذخائر وربما مقاتلين، أو توريط الجيش اللبناني في المعركة على غرار المعركة التي صفيت فيها مجموعةُ الشيخ أحمد الأسير،  فيتحقق الغرض المنشود، إلاَّ أنه يبدو أن حركةَ فتح المستهدفة وهي القوَّةُ الأبرز في المخيم، استطاعت امتصاص حادث الاغتيال، وقامت بتنفيذ عمليَّات إرتدادية خاطفة استهدفت مقرات التنظيمين الإسلاميين السَّلفيين. ورغم ذلك لم تستطع حسم المعركة في فترةٍ زمنيَّةٍ معقولة، قبل تنامي الضغوطات السياسيَّة اللبنانية، والدفع برجال دين سُنة محسوبين على محور الممانعة للتوسط لوقف القتال تحت عنوان «ضرورة وقف هدر الدماء الفلسطيني وتكامل الجهود للتصدي للعدو الإسرائيلي»، وهذا ما عاملا ضاغطا على حركة فتح دفعها للقبول بوقف فوري للعمليات القتاليَّة، ولكن هذا الحل الذي أقر على مضض لن يحول دون عودة الاغتيالات المتبادلة.

عود على بدء، وتعقيباً على حالةِ الإرباك التي أصيب بها المسؤولون اللبنانيون، وجدوى التطمينات التي أطلقوها، وتركهم العنان لتخيّلات المحللين حول الأسباب الحقيقية التي دفعت بدول الخليج العربي وفي طليعتهم المملكة العربيَّة السُّعودية وغيرها من الدول إلى مطالبة رعاياها بتوخي الحذر ومغادرة الأراضي اللبنانية على وجه السُّرعة، نرى أن ثمة أسبابا معلنة تتمثَّل في الخشية من تمدد الإشتباكات المُسلَّحة إلى خارج نطاق مخيَّم عين الحلوة، خاصَّة وأن بعض الأحياء السكنية المتاخمة للمخيم تعرّضت لإطلاق نار كثيف، وتسببت بأضرار بشرية وماديَّة، ولكن يبدو أن الأسباب المعلنة غير مبنية على مُعطيات أمنيَّة صرفة، ولم يتم الإعلان عنها، كتلقّي تهديدات وغير ذلك. أما الأسباب غير المعلنة وهي الأهم تتوزع ما بين أسباب ثنائية أي سعودية – لبنانية، وأخرى إقليميَّة.

تتمثَّل الأسباب الثنائية اللبنانية – السعودية غير المعلنة في إنكشاف حالة الوهن التي تعاني منها الدَّولة اللبنانية التي بدت مغيّبة عن مُجريات الأحداث التي تدور على أرضها، وأن قرار الحل والربط تجاه ما جرى جاء من قبل جماعات حزبيَّة لبنانية وغير لبنانية ممانعة معنية بالنِّزاع، كما في عدم إيفاء لبنان بالتزاماته لجهة بذل ما يكفي من جهود أمنيَّة للتصدي للضالعين في جرائم المخدرات زراعةً وتصنيعاً وتهريباً إلى دول الخليج العربي وبخاصَّة إنتاج وتهريب حبوب الكبتاغون، ويضاف إلى ذلك استياء المملكة ودول الخليج العربي كافَّة مما يخرجُ بين الفينة والأخرى عن بعض الجهات اللبنانية من تصريحات مستفزَّة، تظهرُ وكأن حسن العلاقة بالمملكة ودول الخليج عامَّة ووقف التطاول على قادتها يتوقف على دفعها للمساعدات المالية إلى لبنان، وهذا ما يرى فيه الخليجيون نكرانا للجميل تجاه وقوفهم إلى جانبه في أوقاته العصيبة. وثمَّة انزعاجُ خليجي غير معلن من خنوع القيادات السنيَّة الراهنة وانسياقها خلف توجهات محور الممانعة، وعجزها عن مجرد إدانة أو استنكار التطاول عليها.

بدورها الأسباب الإقليميَّة غير المعلنة، تتمثل في مسائل ثلاث: الأولى وتكمنُ في انكفاء المسار التقاربي ما بين إيران والمملكة العربية السعوديَّة والذي أسهم بعض الشيء في التخفيف من حدَّةِ الاحتقان التي كانت سائدةً بينهما على أثر دعم إيران للحوثيين ومدّهم بالأسلحة والصواريخِ بعيدةِ المدى والمسيّرات التي استعملت في اعتداءات على مرافق هامة في المملكة وبعض منشآتها النفطية، والثانية، تتمثل في الخلاف القديم – المُستجد على حقل الدرة للغاز ما بين المملكة العربية السعوديَّة والكويت من جهة، ومن جهة أخرى إيران التي تزعمُ أنها تشاركهما في ملكية الحقل، وقد هدَّدت بمواصلة عمليات التنقيب فيه. أما الثالثة فتتمثَّل في تعثُّر المسار التفاوضي ما بين الولايات المتحدة الأميركيَّة وإيران حول المفاعل النَّووي الإيراني، والذي يتأرجح ما بين التَّقدُّم البطيء والتَّعثر شبه المستمر، نتيجةَ إلحاح الكيان الإسرائيلي على الولايات المتحدة الأميركية بضرورة العمل على توجيه ضربة عسكرية عاجلة للمفاعل النووي تجعله خارجَ الخدمة، الأمر الذي ترغب به الولايات المتحدة الأميركية ولكنها ترى أنه لم يحن أوانه بعد، لعدم توفر ظروف مؤاتية، وخاصة في ظل َ التوترات التي تشهدها السَّاحةُ الدَّوليَّة بسبب الحرب الدائرة في أوكرانيا.

وثمة مستجداتٌ إقليميَّةٌ ضاغطةٌ، تتمثَّلُ في حالة من الاحتقان الدَّولي والإقليمي نتيجةَ تنامي معدل التحرشات الإيرانية الملاحية في الخليج العربي، وسعي كل من روسيا وإيران وسوريا إلى إخراج القوات الأميركية من شرق سوريا حيث آبار النَّفط، يقابله سعي الولاياتِ المتحدة بالتعاون مع الكيان الإسرائيلي إلى إضعاف الوجودين الإيراني وحزب الله في سوريا من خلال توجيه ضربات موضعية موجعة، ويبدو أن المنطقة أمست على صفيح ساخن يمكن أن يتفجر في أية لحظة، وربما تكون شرارته في محاولة أميركا إقفال معبر البوكمال بين العراق وسوريا الأمر الذي تعتبره إيران تهديدا لمصالِحها ومصالِح أذرعها.

نخلص إلى القول: أن حالة الإرباك التي يعاني منها المسؤولون اللبنانيون مردها إلى المعطيات التي أشرنا إليها، والتي يبدو أن بعضهم غافل عنها، والبعضُ الآخر غارقاً فيها، وهذا ما يدعونا لمناشدتهم بضرورة العمل وبأسرع وقت على ترميمِ السُّلطات الدستورية بانتخاب رئيس للجمهورية، يليه تشكيل حكومة إنقاذ وطني، وملء الشُّغور في إدارات الدَّولة، وتفرُّغ الجميع، قبل فوات الأوان، للتصدي للأزمات الاقتصاديَّة والماليَّة والنَّقديَّة والإجتماعيَّة… الخ، وقبل انفلات الأمور على الساحتين الدولية والإقليمية، والتي أضحت مؤشراتها واضحة.