الهواجس المسيحية تُذكّر بمقدمات حرب الـ75.. وماذا عن «استفاقة» حزب الله ديموغرافياً؟
خطة «Step» طرحها باسيل.. والتوطين في ميزان «الفدرلة» في المنطقة
«وزير معني: نظرة السياسيين اللبنانيين كانت قاصرة منذ بدء الأزمة فتحوّل ملف النازحين إلى قنبلة موقوتة»
يقول كثيرون ممن رافقوا مقدّمات الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، أن المفردات التي يسمعونها اليوم، ولا سيما مِن بعض القيادات المسيحية، شبيهة إلى حد كبير بالمفردات التي رافقت تلك المرحلة. يومذاك، حاكت الهواجس من مخطط أممي لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، مخاوف المسيحيين وقلقهم، ولا سيما أن منظمة التحرير الفلسطينية، بما شكّلته من قوة سياسية وعسكرية وأمنية، قد تحوّلت إلى دويلة ضمن الدولة اللبنانية. اليوم، تتم استعادة الهواجس ذاتها من بوابة الاشتباه بوجود مخطط لتوطين النازحين السوريين، في ظل ما يُرسم من حلول مستقبلية للأزمة السورية، تتخطى مشروع الدولة الموحدة إلى مشاريع تتراوح بين الفيدراليات أو التقسيم أو اللامركزية الإدارية، من دون أن يبدو محسوماً الاتجاه الذي سترسو عليه الأمور، نتيجة تسارع التطوّرات وعدم ثباتها عند حدّ مُعين يمكن البناء عليه.
المخاوف المطروحة، لها ما يُبرّرها، وسط التقارير التي تتحدث عن التحولات الديموغرافية التي أفرزتها الحرب في كثير من المناطق، وعن عمليات حرق للمستندات العقارية وصكوك الملكية والمستندات الثبوتية، والتي تطال في غالبيتها سوريين من الطائفة السنية نزحوا بفعل سيطرة النظام والميليشيات الشيعية الموالية له على قراهم وبلداتهم. وإذا كان الرقم المتداول لعدد النازحين قد قارب المليون والـ700 ألف نازح، فإن الاعتقاد أن ثلث هؤلاء لن يستطيعوا العودة إلى مناطقهم الأصلية. وإذا كان من الاستحالة بمكان توطينهم في بلد ثالث، بعد التشدّد الذي تبديه الدول الأوروبية وعدم قدرة بلدان أخرى على استيعابهم، فإن ذلك يعني أن مصيرهم البقاء في لبنان.
وزاد في رفع وتيرة المخاوف لدى القيادات المسيحية، الاتجاه الدولي الراهن الذي يرمي إلى تأمين ظروف ملائمة لحياة كريمة لهؤلاء النازحين عبر خلق فرص عمل، الأمر الذي يراه هؤلاء أنه يساهم باندماجهم في نمط الحياة اللبنانية والتأقلم معه، وتفضيل عدم العودة، خصوصاً إذا استمرت القرارات الدولية ومقترحات الحلول المتداولة بين طرفي النزاع تنصّ في طياتها على «عودة طوعية».
في رأي وزير معني بملف النازحين السوريين أن نظرة السياسيين اللبنانيين في التعاطي مع هذا الملف كانت نظرة قاصرة منذ بدء الأزمة، ربما لأن الاعتقاد كان أنها لن تطول. لكن الأزمة دخلت عامها السادس، وباتت الأعباء كبيرة على مختلف المستويات الاقتصادية والخدماتية والاجتماعية والأمنية، ولبنان غير قادر على تحمّلها والاستجابة لها من دون مساعدة دولية. فهذا الملف تحوّل إلى قنبلة موقوتة، ولا سيما أن أي حلول للنزاع السوري لن تكون مفاعيلها سريعة. فإذا سارت «مفاوضات جنيف» للوصول إلى حل سياسي كما هو مرسوم لها، فإن ذلك لا يمكن أن يتبلور قبل 18 شهراً من الآن، فضلاً عن أن عملية إعادة إعمار المناطق المتضررة وضمان العودة الآمنة للنازحين، ستحتاج إلى وقت أطول، الأمر الذي يعني أنه لا بد من إيجاد آليات عملية لكيفية دعم لبنان وتمكينه من احتواء النتائج المترتبة على النزوح. فوفق تقديرات البنك الدولي، تكبّد لبنان خسائر بقيمة 13.1 مليار دولار منذ العام 2012، منها 5.6 مليارات دولار فقط في عام 2015، بالإضافة إلى الخسائر المترتبة على الخدمات العامة.
هذه التحديات تمّ التطرق إليها في «ورقة النوايا المقدمة من قبل الدولة اللبنانية» إلى مؤتمر لندن، الذي انعقد في 4 شباط الماضي، والتي تضمنت «إطلاق مقاربة ورؤية جديدة حول كيفية التعامل مع وجود اللاجئين السوريين المؤقت»، فلم تقتصر على «خطة لبنان للاستجابة للأزمة» للعام 2016 بل تضمنت أيضاً «خطة لتحقيق الاستقرار والتخفيف من تأثير الأزمة السورية». وقد تمّ جمع التصوّرين في خطة موحدة وبرنامج يمتد على فترة خمسة أعوام (2016 – 2020) يغطي القطاع التعليمي والفرص الاقتصادية والوظائف.
على أن اللافت أن الشق المتعلق بالبعد الاستثماري الاقتصادي وفرص العمل تقدّم به وزير الخارجية جبران باسيل عبر ما عُرف بفكرة «STEP» كـ «خطوة لعودة النازحين السوريين إلى ديارهم»، قبل أن ينقلب هو بذاته على ما خطته يده. فباسيل شرح فكرة «خطوة» في مؤتمر صحفي، عقده في 29 كانون الثاني الماضي، مشيراً إلى أنها «تُلخّص فكرة برنامج العودة التوظيفي والمدعوم، الذي يقوم على ثلاث أفكار رئيسية: أولها، تنشيط الاقتصاد اللبناني من خلال دعم قطاعات إنتاجية مثل الزراعة، وثانيها، خلق فرص عمل للبنانيين والسوريين في القطاعات المسموح للسوريين العمل فيها كالزراعة والبناء والصناعات الأخرى، وثالثها، تشجيع السوريين وتحفيزهم للعودة إلى بلادهم من خلال دعم اللبنانيين المستضيفين للقيام بمشاريع إنتاجية يتم من خلالها إنشاء صندوق خاص يوظف سوريين ولبنانيين في هذه المشاريع، على أن يكون للسوريين اختيارياً العمل في هذه المشاريع ضمن أفق زمني مُعيّن يعودون بعده إلى بلادهم مع أموال من عائداتهم يستخدمونها في سبيل عودتهم الكريمة».
يومها، قيل لباسيل أن هناك مَن يعتبر أن فكرة «خطوة» تشجّع السوريين على البقاء في لبنان من خلال خلق فرص عمل لهم، بدلاً من عودتهم إلى بلادهم. فرد وزير الخارجية: «وصلتني رسائل عدة من قطاعات ونقابات زراعية في البقاع تشكو من نقص وجود اليد العاملة السورية التي كانت سابقاً، وذلك بسبب المساعدات التي تصل إليها، وهي تُغنيها عن العمل. فما نقوم به اليوم، أن هؤلاء السوريين الذين يحتاجون إلى العمل، والاقتصاد اللبناني يحتاج إليهم، يدخلون في هذا البرنامج المحدد، وعند الانتهاء منه يعودون إلى سوريا. وتأميناً وضماناً لعودتهم الكريمة والآمنة، هناك أموال، محفوظة لهم في صندوق، تُعطى لهم عند عودتهم إلى سوريا».
رؤية باسيل أدرجت في «ورقة النوايا» حيث تضمنت أنه على صعيد خلق فرص العمل، سوف تكشف الحكومة اللبنانية عن «برنامج دعم التوظيف المؤقت» (Step). وهذا البرنامج سيؤمّن الدعم المالي (منح) ويُحفّز التوظيف والمساعدة التقنية التي من شأنها تشجيع الشركات الصغيرة والمتوسطة على توسيع حجم الانتاج وتوفير فرص عمل جديدة دائمة للعمال اللبنانيين، فضلاً عن وظائف مؤقتة للسوريين. وسيتم تطبيق هذا البرنامج بالتنسيق ما بين الوزارات المعنية، إذ سيؤمن الاستثمارات اللازمة التي ستخوّل السوريين العمل والادخار تمهيداً لعودة سليمة إلى بلدهم.
تلك الوقائع تدفع إلى التساؤل عن مرامي حملة باسيل على زيارة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى لبنان، والإيحاء بأن ثمة مؤامرة تحاك في الأروقة الدولية لتوطين النازحين السوريين. وإذا كانت الحكومة، بلسان رئيسها، قد أدرجت تلك الحملة في إطار مزايدات تفاقم الأزمة، مؤكداً أن موضوع التوطين غير وارد وغير مطروح، فإن بعض المراقبين يرون أن ما يجري يصبّ في خانة عملية استقطاب وشدّ عصب الشارع المسيحي والمزايدات ضمن قيادات هذا الشارع، ولا سيما أن مواقف مناهضة لتوظيف النازحين ربطاً بتمويل دولي واستثمارات اقتصادية صدرت عن وزير حزب الكتائب سجعان قزي، وهو ما اعتبره محاولة مبطنة للتوطين. لكنهم يتخوفون من أن تكون عملية الاستقطاب تنطلق من حسابات مبنية على لحظة إقليمية مؤاتية تطرح فيها مشاريع الفدرلة في المنطقة. وهي حسابات خاطئة، لن تؤدي سوى إلى مزيد من إحداث شرخ داخلي، يصعب معها إعادة احتواء شظاياها وتداعياتها إذا استمرت محاولات تأجيج النفوس.
غير أن تساؤلاً يعتري الكواليس السياسية من دون أن تتكشف بعد أبعاده، عن أهداف التماهي القائم بين حملة باسيل والحملة الإعلامية التي تشنها «قناة المنار» التابعة لـ «حزب الله» حول «إنكار لبنان لعملية التوطين»، وكثير من هؤلاء النازحين السوريين يسيطر الحزب على قراهم وبلداتهم ويستوطنها، فهل أن في الأمر «استفاقة ما» للتداعيات المتوسطة والبعيدة المدى التي بدأت تتكشف عن «عمليات التطهير» التي جرت في سوريا، والتي سترتدّ حكماً على المعادلة اللبنانية ديموغرافياً!
رلى موفق