IMLebanon

قصة لعبة سياسية كرّست جمهورية ديمقراطية

قصة لعبة سياسية كرّست جمهورية ديمقراطية

اللبنانيون اختاروا الدولة لا الدويلة

وحكم الدستور والقانون يُظلل الجميع!!

كان ذلك قبل ستة وعشرين عاما، في ليلة ليلاء، وأجواء صمّاء تعجز فيها الآذان عن إسماع الأصوات المختلطة بأنين الرصاص، الى الزعيم المطلوب، بادر صاحب الاتصال الى السؤال عن الرئيس العماد ميشال عون، فقيل له انه ليس على السمع الآن.

بعد نصف ساعة، اتصل العماد عون بصاحب الاتصال، الذي حذره من نهاية صعبة تتربّص به وبالوطن. إلاّ أن الجنرال أكد له ان الظروف الدولية لا تسمح باقتحام قصر بعبدا وهو باق فيه وصامد. أنا الآن في جمهورية وأسأل الله ان تبقى جمهورية الناس.

انتهت المكالمة، وصباح اليوم التالي كانت اسرائيل قد وافقت مع سواها من الدول الاقليمية والدولية على انهاء ما أسموه ب تمرّد الجنرال في بعبدا الذي لبّى طلب السفير الفرنسي في لبنان رينه ألا الانتقال الى مقر السفارة الفرنسية في الحازمية، ل التفاوض على إخلاء القصر الجمهوري. غادر العماد عون القصر تاركا عائلته فيه، وذهب مع بعض أصدقائه الى السفارة الفرنسية. وبقي فيها معهم، بضعة أشهر، الى ان غادر عبر تسوية الى مرسيليا في فرنسا، ومن ثم الى قصر لا هوت ميزون قرب باريس.

بعد ستة وعشرين عاما، حلّت تسوية جديدة، قضت بعودة الجنرال مع عائلته هذه المرة، الى القصر الجمهوري رئيسا للجمهورية اللبنانية، بموافقة لبنانية قوامها أركان السلطة، وفي غياب لرئيس البلاد استمر عامين ونصف عام وبضعة أيام، وهم رئيس البرلمان نبيه بري وبموافقة أكبر حزب سياسي لبناني هو الرئيس سعد الحريري وأكبر حزب مسيحي التغيير والاصلاح وذلك في عملية ديمقراطية عبّر عنها منافسه المطروح سليمان فرنجيه، وبضع أوراق بيضاء تمناها الخصم وأيدها رئيس البرلمان، وبضعة نواب من تيار المستقبل وعدد من النواب المستقلين.

إلاّ أن الجنرال الذي غادر القصر الجمهوري الى السفارة الفرنسية بادئ الأمر، ومن ثم الى مرسيليا والى لا هوت ميزون عاد اليه بعد حوالى ربع قرن من الزمان رئيسا للجمهورية وحاكما بطرق ديمقراطية، وفق لعبة سياسية، كان من أطرافها حزب الله وتكتل التغيير والاصلاح والعديد من المستقلين عن أي حزب أو تيار سياسي.

والرئيس العماد ميشال عون استعاد السلطة وفق الأصول الديمقراطية، وألقى خطاب القسم برعاية الرئيس بري والنواب إلاّ بضعة منهم، كان احجامهم عن انتخابه ظاهرة ديمقراطية وسياسية، في بلد ذي جذور عرفتها أثينا في العصر القديم، لا اسبارطة الاغريقية، وليس فيه من أعراف اليونان شيء.

خطف العماد عون في خطاب القسم الدستوري، القلوب والصدور، وأكد انه بعد الآن، لن يكون في لبنان أحد أقوى من القانون، ولن يكون فيه فساد ولا هيمنة للنفايات. طبعا، لم يأت حاكم الى لبنان، إلاّ ووعد بأحلام زهرية، تحقق بعضها، ولم يتحقق بعضها الآخر، إلاّ أن غالبية الشعب صدقته، وزحفت بعد أسبوع الى قصر بعبدا، لتمحضه التأييد. وتؤكد له انها لن تتراجع عن محبته وتأييده حتى يقضي الله أمرا مغايرا.

كان الرئيس السوري ناظم القدسي يقول في العام ١٩٦٤ لعدد من السياسيين ان الحكم قرار وتنفيذ. وعندما تتعثر ظروف التنفيذ، فان على لبنان ان يقبل ويتقبل نعمة الحكم الديمقراطي وزوالها في آن.

وهذا ما جعل بعض السياسيين، يقولون له ان خالد العظم هو صاحب القطيعة الاقتصادية بين لبنان وسوريا، لكن بعض السياسيين طالبوه برد عملي على ما فعله خالد العظم. إلاّ أنه ردّ بأن الشعب السوري حاسبه على أخطائه.

وهذا ما جعل معظم السياسيين، يلوذون ب بأول وحدة عربية كان نواتها في ٢٢ شباط ١٩٥٨ الوحدة التي قادها الرئيسان جمال عبدالناصر وشكري القوتلي، ومن نتائجها السلبية أزمة الانفصال الشهيرة بقيادة العقيد حيدر الكزبري ورفاقه.

وهذا ما جعل الرئيس العربي جمال عبدالناصر، يضع اللوم على بعض السياسيين في تقويض أول نواة للوحدة العربية. ووقوع الانفصال المرفوض لأسباب داخلية، لا لعوامل قومية ووطنية.

الدرس الكبير

لقد واجه لبنان في العام ١٩٥٨، حربا قاسية بين الطوائف والفئات اللبنانية، جعلت الرئيس عبدالناصر، يبدّد أحلام بعض السياسيين، بالهرب من الفساد الى الوحدة بين بعض الأقطار العربية، وغادر الحياة وهو يحذر من اللعب بمصير لبنان، والوحدة بين شعبه.

ويبدو ان شلال المفاجآت انهمر في العام ٢٠١٦، عندما فاز المرشح الجمهوري ترامب على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون على الرغم من ان معظم التوقعات كانت تستبعد فوز الحزب الجمهوري بأكبر جمهورية في العالم.

ويقال ان الرئيس الأميركي الجديد ترامب، قد أيقظ أحلام الأميركيين من سبات عميق عندما تعهّد لهم بأن تعود الولايات المتحدة، قائدة حقيقية للعالم الحر، وبتحريرها من الأزمات السياسية والاقتصادية، لتعود الى قيادة القارة الأميركية، والقارة الأوروبية في انعاش الحياة العامة، والى ريادة التفوّق العسكري والمادي، الذي عادت روسيا الاتحادية الى منافستها عليه، بعد تحررها من الاتحاد السوفياتي السابق، وأكدت موسكو للعالم كله، ان عصر الرئيس فلاديمير بوتين، قد أعاد الى الكرملين الأحمر، ما خسرته برحيل ليونيد بريجنيف وعصر بودغورني وبولغانين وأعاد الدور الأكبر في الحرب والسلم، الى مقارعة الغرب ومنافسته على زعامة العالم.

وهذا ما يتجلى الآن، في الحرب السورية الدائرة منذ خمس سنوات، وفي عجز الادارة الاميركية بزعامة الرئيس أوباما، الذي زار جمهورية كوبا أخيرا، من دون أن يأتي للأميركان بنصر متكافئ لحربهم على كوبا الجزيرة الصغيرة تجاه فلوريدا، والتي واجهت أميركا بشراسة، منذ أكثر من نصف قرن بزعامة قائدها فيدل كاسترو، وبرئاسة شقيقه راوول كاسترو أخيرا.

لبنان الكبير

لكن، لبنان الصغير أصبح لبنان الكبير، ربما، لأن الولايات المتحدة راحت تناصر الزعماء الديكتاتوريين في العالم، في مواجهة القادة الديمقراطيين.

ولعل عودة العماد ميشال عون الى القصر الجمهوري، رئيسا للجمهورية ترسم صورة الانعزال السياسي الأميركي لأن ترامب انتصر على منافسته هيلاري كلينتون، وعرف كيف يجعل الأميركيين ينتفضون لاستعادة أمجادهم الغابرة، ولم تحسن السيدة هيلاري اجتذابهم الى مواقف وهمية، ضد الأحلام الوردية التي زرعها مرشح الحزب الجمهوري على الرغم من عدم الالتحام الكامل وراءه، وحرب النساء عليه.

ربما يكون أوباما قد أعطاهم مواقف، إلاّ أن ترامب قدّم لهم نتائج، وهي في العالم الأميركي استعادة حقيقية لدول كادت ان تبتعد عن أميركا وفي مقدمتها: انفصال بريطانيا عن أوروبا، وابتعاد ألمانياوفرنسا وايطاليا واسبانيا عنها.

من هنا، كانت دول الغرب تدعو اللبنانيين الى الاتفاق على رئيس جمهورية يوحّدهم، من دون ان تتدخل عمليا في ذلك، لانشغالها في حروب دائرة بين السعودية واليمن، وصراعات على دور داعش والنصرة في العراق وسوريا.

ربما، لو تدخلت أميركا ترامب كما فعلت أميركا هيلاري، لكانت قد نزعت الطبخة وفشلت مساعيها، في الابتعاد عن الأضواء، والمساهمة من بعيد، في بلورة تفاهم صعب بين حزب الله وتيار المستقبل والتيار الوطني الحر، والوحدة في المواقف بين حزب القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر على حصول الوحدة المعجزة على حل لا بد منه مع حزب الله والتيار المسيحي على ما ينتابه من تباينات على اختيار الجنرال ميشال عون كرئيس جمهورية، تبحث للمرة الأولى في التاريخ على قائد لا عن مجرد رئيس يرئس جمهورية، وجمهورها الأكثر في مكان آخر، كما يقول الرئيس حسين الحسيني، رائد اتفاق الطائف وغير الموافق على معظم الآراء الآنفة الذكر.

والعقدة التي بادر العماد عون الى حلّها، بين آرائه في العام ١٩٨٨ ومواقفه في العام ٢٠١٦، هي دعوته الى احترام النظام السياسي، بعد تطبيق اتفاق الطائف كاملا، ومن دون تجزئة أو تحريف كما فعل النظام السوري ساعة راح يجري انتخابات نيابية، ولكل منطقة اتفاق على ذوقه، لم يكن يشبه الطائف، إلاّ في تجمع طوائف في كل منطقة على حسابه، بغية الاتيان بوجوه سياسية تناسبه.

ويذكر في هذا المجال، انه في العام ١٩٩٢، جرت الانتخابات النيابية، في الشمال والبقاع وجبل لبنان، عبر قوانين انتخابية لا يجمع بين مناطقها قانون واحد. وعندما التقى ٢٨ مرشحا في الشمال، ليعلنوا لائحة الشمال أخذ كل واحد من المرشحين يتساءل عن أسماء زملاء مرشحين لا يعرفهم ليكونوا شركاء في قائمة واحدة.

وهذا، لم يحصل الآن، بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري في العام ٢٠٠٥ وانسحاب القوات السورية منه، بتأييد سافر، من الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي كانت تربطه صداقة عميقة بالرئيس الشهيد رفيق الحريري.

هل يكون الرئيس ميشال عون والرئيس سعد الحريري والرئيس نبيه بري بادئ الأمر، أول تجربة في تاريخ لبنان الحديث. على أساس ان لبنان شهد للمرة الأولى اختيار رئيس جمهورية، توافق عليه اللبنانيون بصورة منافية لما هو معتاد، ومناسبة لظهور ذهنية جديدة لم يعرفها في السابق.

قد يصحّ الجواب بنعم وقد لا يصحّ، إلاّ أن التباينات في الانتخاب، بين أوراق معروفة، وأوراق بيضاء قد كرّست الواقع الديمقراطي لجمهورية حديثة.

صحيح، ان التصميم على انجاز تأليف الحكومة الجديدة قبل عيد الاستقلال في ٢٢ تشرين الثاني، هو مؤشر حقيقي على نضج التجربة الديمقراطية، إلاّ أن اللبنانيين اختاروا هذه التجربة مرغمين بادئ الأمر، ولكنهم استساغوها، وها هم يتوافدون الى القصر الجمهوري لتهنئة القائد الجديد للبلاد، والاعتراف بأن اللعبة الديمقراطية مقدسة بالنسبة اليهم جميعا.

ولعل لعبة الأوراق البيضاء ساهمت الى حدّ بعيد، في بلورة الظاهرة الديمقراطية الحديثة.

وهذا ما حصل مع الشيخ سامي الجميّل رئيس حزب الكتائب يعارض ثم يوالي الحكم الجديد في ذهنية جديدة.

ويقول الشيخ بطرس حرب ان المعارضة، ثم ممارسة الاختبار الصعب بين الموالاة والمعارضة واجب سياسي حر.

ولعل القول ان عصر العماد عون، هو المحاولة الجديدة والجدية لعودة الجمهورية الى عهدها الأصيل في البلاد، والفرصة الذهبية لعودة الدولة الى ممارسة دورها في البلاد.