المعلومات التي يتمّ تداولها في أوساط سياسية وثيقة الإطلاع تفيد أنّ الحرب الدائرة حالياً في عين الحلوة ليست مجرد جولة جديدة في مسلسل المواجهات التي تندلع بين القوى والفصائل، حيناً بعد آخر، بل إنّها واقعياً «جولة الجولات»، ويُراد منها إنهاء خطر المخيم كبؤرة أمنية على كتف بوابة الجنوب وعاصمته صيدا.
في أي شكل، لن يُسمح بأن يبقى المخيم ملجأ تختبئ فيه خلايا تنظيمات وجماعات غامضة أحياناً ويصعب ضبطها. وسينتهي الأمر في نهاية الجولة الحالية بإحكام السيطرة الأمنية على عين الحلوة، في شكل تام. ويمكن أن يتمّ ذلك بواسطة القوى العسكرية والأمنية اللبنانية الرسمية. ولكن، يمكن للسلطة الفلسطينية الرسمية أن تأخذ هذه المهمّة على عاتقها بجانبها التنفيذي، من خلال «فتح» والقوى الحليفة لها داخل المخيم. على أن تقوم هذه السلطة بالتنسيق مع الجانب الرسمي اللبناني في شكل كامل، بحيث يصبح أمن المخيم تحت السيطرة اللبنانية التامة.
وهذا السيناريو هو الكفيل بإنهاء الأوضاع الشاذة في المخيم، بأقل ما يمكن من أكلاف لبنانياً وفلسطينياً، أي بالاستغناء عن الدخول مجدداً في تجربة مخيم نهر البارد.
ويرتدي توقيت هذه الخطوة أهمية بالغة. ففي تقدير المراقبين أنّها تأتي في سياق ترتيب دقيق للوضع في لبنان عموماً، والجنوب خصوصاً. وثمة من يتحدث عن «طبخة» متكاملة يتمّ إنضاجها، وترتبط بالمناخات الجديدة التي يدخل فيها الشرق الأوسط، حيث باتت تتقدّم التسويات والصفقات على الصدامات والحروب بين الخصوم الإقليميين والدوليين.
فالجنوب اللبناني الذي يمثل واقعياً ورمزياً معقل الشيعة في لبنان، ولاسيما «حزب الله» حليف إيران، قد يدخل في الأسابيع المقبلة خارطة الطاقة في شرق المتوسط، إذا جاءت نتائج عملية الاستكشاف إيجابية. وهذا ما سيجعل الأمن فيه جزءاً من أمن الطاقة في الشرق الأوسط والعالم. ومن الضروري، قبل إعلان شركة «توتال» عن هذه النتائج في البلوك 9، في غضون شهرين، أن يتمّ ضمان أمن هذه الطاقة المكتشفة ومعابر انتقالها وتخزينها واستخدامها.
فلا يمكن عملياً جعل هذه الطاقة، المقدّرة بعشرات المليارات من الدولارات، رهينة عبث أمني لا يمكن التحسب له وضبطه. وربما كان هذا الهاجس وراء الضغوط الدولية والعربية التي مورست في مجلس الأمن الدولي أخيراً لمنح قوات «اليونيفيل» هامشاً أوسع من التحرّك أمنياً في بقعة عملها.
ولمزيد من الدقّة، سبق لـ«اليونيفيل» أن حصلت في آب العام 2022 على هذا الهامش، بقرار التجديد لها عاماً واحداً، لكنها على الأرض لم تبدّل في قواعد عملها القديمة، فأبقت على تنسيقها مع الجيش اللبناني. والأرجح، هي ستستمر في هذا التنسيق على رغم التعديلات التي طرأت على قرار التجديد الأخير. فالقوى المعنية بالقرار لا تريد فعلاً الخروج من قواعد التنسيق مع الجيش الذي تدعمه وتطالب بتسليمه الأمن في لبنان كله، لكنها أرادت بإصرارها على تعديل النص، توجيه رسالة إلى الجميع في لبنان مفادها أنّ أمن الجنوب والحدود بات مسألة لا يمكن التهاون فيها بعد اليوم، وأنّ الدول الداعمة لـ«اليونيفيل» مستعدة للذهاب بعيداً في تحقيق هذا الهدف، إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك.
ولكن، في اعتقاد كثيرين أنّ هذا التوجّه الدولي- الإقليمي إلى التشدّد أمنياً في الجنوب، هو موضع تفاهم بين جميع اللاعبين. ولذلك، فإنّ الإشارات الطموحة التي حملتها زيارة الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين الأخيرة، إلى ترسيم الحدود البرية، لم تلقَ اعتراضاً من أي جهة داخلية. كما أوحى المدى الجغرافي الذي تحرّك فيه هوكشتاين، بين الروشة وبعلبك، بهذا المناخ المستجد من الاسترخاء الأمني والسياسي.
على دوي القذائف في عين الحلوة، يذكّر سياسي جنوبي بمقولة متداولة منذ سنوات: حروب لبنان بدأت في صيدا (اغتيال النائب معروف سعد في العام 1975) وستنتهي في صيدا (عين الحلوة).
ربما هناك مبالغة في هذه المقولة. ولكن، بالتأكيد، ما يجري على رقعة الجنوب من تزاحم لعناصر الأمن والسياسة والاقتصاد، بأبعادها المحلية والإقليمية والدولية، سيترك بصماته بقوة على مستقبل لبنان ككل.