كلما حلت ذكرى 14 آذار (مارس) 2005 واستحضرت في الذهن صورة اللبنانيين المحتشدين في ساحة الشهداء، تأبى الذاكرة إلا أن تستحضر صورة أخرى، لسجين لبناني عرفناه في مركز التحقيق باسم خليل. ولعل ما يحرض الذاكرة هو ذلك التناقض الآسر بين جموع ثارت رفضاً للذل والقتل وانتهاك الكرامة وبين ما كان يعانيه ذلك المعتقل اللبناني من هوان وإذلال وهو ينفذ أوامر السجانين البغيضة ويقوم بأعمال السخرة والتنظيف، أو لعل ما أثارها هو هتاف المتظاهرين ضد قهر السلطة السورية ووصايتها ولأن مشهد المطالبين بالعدالة بدا كأنه يغازل رغبة دفينة في الثأر والانتقام من جلادي خليل وما ارتكبوه بحقه وحق معتقلين آخرين. ولعل المحرض هو ذلك التوجس المقيت مما قد تحمله الأيام السوداء المقبلة من فتك وتنكيل، مع نجاح تعاضد القهر والاستبداد في محاصرة الربيع العربي وكسر إرادة البشر وحلمهم بالتغيير والحرية والكرامة.
لم يكن خليل اللبناني الوحيد في أقبية التعذيب بل كان ثمة كثيرون غيره، فضلاً عن فلسطينيين وأردنيين وعراقيين، وأثار هذا التنوع المشرقي في نفوسنا كمعتقلين سوريين، إحساساً بالضعف والعجز أمام جبروت نظام يهمه تكريس الإيحاء بأن يده القمعية تطاول كل شيء، فكيف الحال ونحن نرى إمارات الخوف والرهبة الشديدين تطغى على وجوه غالبية من اعتقلوا بمجرد معرفتهم أنهم في مركز التحقيق السوري! ليبدو مبرراً الاستنتاج بأن إحدى دعائم سلطة النظام وسطوته كانت قدرته القمعية على مد هيبته وطغيانه في المشرق العربي، وبأن الطريق الكفيلة بهز جبروته وهتك بنيته الاستبدادية هي نزع أوراق نفوذه الإقليمي، وليبدو تالياً، كأنه أعلن حقيقة ساطعة بعيداً عن المبالغات التحريضية، من جاهر قائلاً، بعد خروج آخر جندي سوري من لبنان، بأن رحلة إضعاف النظام السوري وتفكيكه قد بدأت، الحقيقة التي شكلت أحد حوافز نهوض الشعب السوري، وأكرهت النظام على استجرار كل دعم خارجي لتعويض ضعفه.
تحضر صورة خليل مشحونة بمشاعر القلق والخوف والإحباط، مع كل نقلة تذهب بثورة اللبنانيين بعيداً من حلمهم بالكرامة والمساواة في ظل دولة قوية، ومع كل موجة عنف وتدمير تمكن قوى القمع والوصاية من تخريب ثورة السوريين وسحق آمال هذا الشعب العنيد بتكبيده ما لا يطاق من معاناة وضحايا ومشردين، والأهم مع تواتر التسريبات والكشوفات عن ما تشهده السجون والمعتقلات السورية من استباحة وفيض لحالات الاعتقال العشوائي والاختفاء القسري، لأن خليل كان سجيناً مجهول الهوية محفوفاً بالغموض والصمت، لم يعرف أحد عنه شيئاً ذا قيمة، ما اسمه أو لقبه، ما بلدته، كيف اعتقل ولماذا؟… نسجت حكايات كثيرة حوله، وفاقتها تعداداً الثرثرات والتكهنات.
قال أحدهم إن خليل ليس اسمه الحقيقي بل مجرد لقب أطلقه عليه أحد الجلادين. أضاف آخر: لقد أنساه رعب التعذيب اسمه وأفقده القدرة على النطق، فهو لم يتفوه بكلمة واحدة منذ أحضروه متورماً ومدمى. ثمة من حلف إيماناً مغلظة بأن اعتقال خليل كان بسبب تعاطفه مع النضال الفلسطيني في لبنان. وهناك من جزم بأنه يعرف قصة خليل وأنه كان يعمل سائق سيارة أجرة في بيروت، تشاجر مع ضابط سوري، فلقي هذا المصير. في حين اختصر أحد السجانين الثرثارين سبب اعتقال خليل بعبارة قاطعة: «كان معلاقه كبير، هذا جزاء من يرفع رأسه في وجه أسياده»!.
وأيضاً تحضر صورة خليل مع تفاقم معاناة النازحين السوريين في لبنان، ومع مبادرات متنوعة لمنظمات المجتمع المدني، لاحتضانهم وحمايتهم وتأمين ما تيسر من مراكز إيواء لهم ورعاية لأطفالهم، صحياً وتعليمياً، تحضر بالضد من بعض الدعوات والممارسات العنصرية التي نسي أصحابها أو تناسوا وجوه معاناتنا المشتركة، حيث كان خليل لا يفوت فرصة كي يلامس أو يشد على يد أي معتقل يستدعى إلى التحقيق، يسارع إلى الزنزانة التي يرمى فيها بعد جولة التعذيب ليخفف عنه آلامه ونزف جروحه، يعينه على ترطيب شفتيه ببعض الماء، لا يتركه إلا بعد أن يطمئن لقدرته على تدبير أموره، يخصص له حصة أكبر من الطعام، ويكلف نفسه، بين الفينة والأخرى، عناء استطلاع أحواله، معرضاً نفسه للنهر والشتائم ولأشد عبارات التهديد والوعيد، وكأنه يأبى، أياً يكن الأذى والعقاب الذي ينتظره، أن يتمكن بطش الجلادين من إضعاف هؤلاء المعتقلين وكسر إرادتهم.
لم تنس غالبيتنا خليل، وتحولت لمسات العطاء وهمسات الدعم المعنوي التي خصها لكل معتقل إلى حكايات نتداولها، بل كانت الأسئلة عن أحواله تعترض كل معتقل ينقل من مركز التحقيق إلى السجن، هل قابلت سجيناً لبنانياً اسمه خليل؟ كيف هي صحته، أما زال يقدم الدعم والمساعدة للآخرين، هل عرف اسمه الحقيقي، أو سبب اعتقاله؟ لكن بعد عامين تقريباً من تلك الأسئلة المحيرة، بدأ القلق والخوف وربما أحياناً بعض الفرح يساورنا وقد تأكدنا من أكثر من معتقل، بأن خليل لم يعد موجوداً في مركز التحقيق، لتثار بيننا أسئلة جديدة، هل نقل مثلنا إلى سجن آخر، أم إلى مركز تحقيق جديد؟ هل أفرج عنه وعاد إلى أهله وأسرته، أم تعرض لأذى ولاقى مصيراً مؤلماً؟ غاب خليل عن المشهد لكن صورته كضحية لطغيان الوصاية على شؤون البشر وحيواتهم، لا تزال حاضرة، والأهم كإنسان مكتوم ومظلوم ولكنه ودود ومعطاء، وتزداد الصورة حضوراً اليوم مع تصاعد منطق القهر والعنف ومع تواتر الأحداث المتعلقة بالقمع والاعتقال والتعذيب وأيضاً بالتعاضد… ولم لا؟ ما دام لا قيمة عند خليل لاسم أو لأهل أو لعنوان أو لألم، أمام لهفته المتحفزة أبداً لتقديم كل عون ومساندة، من دون منة أو تذمر، لتمكين أقرانه المضطهدين من الصمود والنهوض.