يستغرب المرء ويتعجب مرتين وهو يتابع أعمال الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة؛ المرة الأولى، من ذاك الحضور الكثيف لرؤساء دول العالم وزعمائه، مع أن غالبيتهم تدرك، صورية هذه المنظمة الأممية والواقع المأزوم الذي تعيشه اليوم، وأنه لا ينتظر من دوراتها الروتينية منفعة أو مردود.
المرة الثانية، من روح التحدي التي أظهرها بعض الزعماء المأزومين، بأصابعهم الاتهامية وأصواتهم المرتفعة، خاصة عند المرتكبين منهم، وكأنهم يراهنون على صراخهم، في ردم هوة التناقض بين أفعالهم المشينة ضد شعوبهم وتجاه الاستقرار الدولي وبين ما يقولونه ويدعونه.
وإذا تجاهلنا مواقف الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، التي تمتلك حق الفيتو، والقدرة على التحكم بالصراعات والنزاعات الإقليمية، وغالباً، على حساب الشعوب الضعيفة، وتجاهلنا أيضاً الحضور الهزيل لممثل النظام السوري، الذي بدا كأنه «لا يهش ولا ينش» في حضرة الأطراف التي مكنته من الاستمرار في الحكم، فلا يمكن أن نغفل الحضور المستفز للرئيسين الإيراني والتركي، وتنافس خطابيهما في الادعاء والسخرية عملياً من الأهداف والمواثيق التي نشأت المنظمة الأممية على أساسها.
بداية، لا نعرف إذا كان الرئيس حسن روحاني الذي نادى من على منبر الأمم المتحدة «بحل نهائي للسلام والأمن في منطقة الشرق الأوسط عبر خياري الديمقراطية بالداخل والدبلوماسية بالخارج»، ودعا لبناء «تحالف من أجل الأمل والسلام يرتكز على مبدأين أساسيين هما عدم الاعتداء وعدم التدخل في الشؤون الداخلية»… لا نعرف إذا كان يوافق، وهو «الإصلاحي» المتمرس، على ما يراه الجميع بأن بنية نظامه الديني المغلقة وتراتبية مؤسساته تتناقضان مع أبسط مبادئ الديمقراطية، فكيف الحال مع التغييب المزمن للرأي الآخر، وقمع حرية التعبير، وتواتر موجات اعتقال طالت عشرات الألوف من المتظاهرين الرافضين لاستمرار التسلط والفساد، وسجن نساء إيرانيات لمدد طويلة بسبب اعتراضهن على قيود تخص أغطية الرأس والملابس وتزويج الأطفال، كما ليس حدثاً عابراً لجوء شابة إيرانية مؤخراً لإحراق نفسها خوفاً من زجها في سجن ظالم بعد أن غامرت وخرقت الحظر على النساء وحضرت مباراة لفريقها في كرة القدم!
ونسأل، من هو الطرف الذي لم يتلكأ للحظة منذ إعلان جمهوريته الإسلامية، عن التغلغل في مجتمعات الآخرين والتدخل في شؤونها؟ من الذي يفتنه منطق القوة والغلبة، ودأب على تسعير الحروب ورفض الحوار والتسوية إلا من موقع المسيطر والمهيمن؟ ومن صاحب المشروع المذهبي الذي خلق أذرعاً وميليشيا عسكرية حيث وجد الفرصة لتصدير «ثورته» وتوسيع نفوذه الخارجي؟ ولعل نظرة سريعة لما حل بالعراقيين والسوريين واللبنانيين واليمنيين وما يكابدونه، تجيب عن هذا السؤال.
واستدراكاً، لم يأتِ الرئيس الإيراني إلى اجتماعات الأمم المتحدة من أجل الأمل والسلام، بل كي يؤكد أن بلاده لا تزال قوية وقادرة على التخريب والأذى، وأن تهديداته بإغلاق مضيق هرمز والتحكم بخطوط إمداد العالم بالطاقة يجب أن تؤخذ على محمل الجد، وأنه ليس نهاية المطاف تخريب ناقلات نفط واحتجاز أخرى، أو القصف الذي تعرضت له منشأتا نفط في السعودية.
وفي المقابل، ماذا يمكن أن يقال لإردوغان حين يدعو «للحرية والرخاء والعدالة، ولمستقبل سلمي وآمن للجميع، ويغمز إلى الأخطار التي تهدد السلام العالمي بصعود الاتجاهات العنصرية وكراهية الأجانب والتمييز»، وهو الذي يحض قواته العسكرية على التهام مزيد من الأراضي السورية، ولا يتردد في تقديم الدعم لمختلف الجماعات الإسلاموية المتشددة وتوظيفها ضد الأكراد ولتوسيع دوره في سوريا وليبيا وغيرهما؟ ماذا يمكن أن يقال لمن يدعو للحرية عندما يزج مئات الألوف من معارضيه في السجون بذريعة محاولة الانقلاب الفاشلة ضده، ويقمع بشدة كل صوت ينتقده، أو حين يأبى تحقيق أبسط شروط المساواة بين مكونات المجتمع التركي، مصعداً تمييزه واضطهاده للأكراد بصفتهم عدوه الرئيسي، إنْ في بلاده أو في بلدان الجوار؟ وماذا يمكن أن يقال عن إنسانيته وعدالته، حين يستثمر قضية اللاجئين السوريين بأسوأ الأشكال، ويستغل أنينهم وعذاباتهم لابتزاز الغرب.
واستدراكاً، لم يأتِ إردوغان إلى الأمم المتحدة ليدافع عن العدالة والمساواة، بل كي يلعب بورقة اللاجئين السوريين، ففتح قاصداً بعض بوابات عبورهم إلى أوروبا، لتغص بهم الجزر اليونانية، قبل أيام قليلة من «خطابه التاريخي» ما مكنه من مطالبة أميركا وأوروبا بمنحه 27 مليار دولار لإقامة مستوطنات للاجئين، تمنعهم من التوجه غرباً.
والحال، ما كان لروحاني وإردوغان أن يدبجا هذا النوع من الخطابات المدعية، لولا العماء الآيديولوجي المشترك بينهما، الذي لا يقيم اعتباراً لحقوق البشر ولأولوية صيانة حيواتهم وكراماتهم، والأهم لولا وجود مناخ عالمي مواتٍ، مع تقدم التيارات الشعبوية في الكثير من البلدان، وتنامي نفوذ جماعات يمينية متطرفة تحكمها مصالحها الضيقة وروح الاستئثار والأنانية، التي ما دامت تتغنى بخصوصيتها وفرادتها، فلا تعنيها الروح التوافقية العالمية لإدارة هذا الكوكب بصورة مفيدة للجميع، وتالياً مع العجز عن نشر ثقافة أممية تحمي فكرة المواطنة وحقوق الإنسان، ربطاً بتصاعد الأزمات الاقتصادية في مختلف المجتمعات، ما أضعف، وإنْ بدرجات مختلفة، إمكانياتها الذاتية في تقديم المزيد لمصلحة خير الإنسانية جمعاء، وربطاً بالتأثير اللافت لسياسة الإحجام والانكفاء لدى القيادة الأميركية، بصفتها القوة الأعظم، وميلها للاهتمام بقضايا الداخل بعد وصول ترمب إلى الحكم، كرد فعل على النتائج المخيبة للآمال التي نجمت عن السياسة التدخلية الخارجية النشطة.
وأخيراً نسأل، ألا يصح إدراج مشهد الرئيسين، روحاني وإردوغان، ضمن لوحة تضم قرار انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، والدعوات الإسرائيلية لإقامة دولة يهودية تخرج الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين منها، وظواهر استعار الصراعات الدينية والقبلية والمذهبية لأتفه الأسباب في غير مكان، وضيق الصدر من التعايش مع الآخر المختلف؟ ولنقل إدراجها ضمن سياق العودة إلى الرغبة القديمة التي شاعت لعقود، بتفضيل الأمن والاستقرار على التغيير الديمقراطي واحترام الكرامة الإنسانية، ما مكن أنظمة الاستبداد من استعادة زمام المبادرة للتفرد في الحكم، وإقصاء التعددية والتنوع والرأي الآخر، وفرض ما يتفق مع تسلطها وفسادها من نمط حياة على شعوبها؟!