حدث ذلك يوم 16 نيسان (ابريل) سنة 1988. في ليل ذلك اليوم، أقلعت طائرتان من مطار عسكري جنوب تل أبيب. الأولى من طراز بوينغ 707 تابعة للقوات الجوية الإسرائيلية، وعلى متنها إسحق رابين وعدد من كبار ضباط الاستخبارات. والثانية من الطراز ذاته، وإنما تنقل على متنها الفريق التنفيذي لعملية تحمل اسماً مشفراً هو «السيف».
ولما دخلت الطائرتان في أجواء تونس، بعد منتصف ليل 17 نيسان، طلب رابين من قائد الطائرة أن يستمر في التحليق على علو شاهق فوق الفيلا التي يسكنها خليل الوزير (أبو جهاد).
وفي الوقت ذاته، كانت طائرة القيادة تتلقى، على موجات راديو الاتصال مع الفريق الأرضي، تفاصيل التحركات التي يقوم بها الرجل المستهدَف «أبو جهاد».
الرسالة الأولى أكدت وصول سيارته المرسيدس المصفحة التي قدمها له ياسر عرفات هدية في يوم زفافه. وبما أن الفريق المسؤول عن عملية الاغتيال كان قد زرع أجهزة تنصت حساسة في كل زوايا الفيلا قبل شهر تقريباً بواسطة عميل محلي، لذلك شوهد أبو جهاد بجلاء تام على شاشة التقاط الصور. ورافقه رابين بنظراته وهو يتوجه إلى غرفة النوم ليقبل نجله، ثم ينتقل إلى مكتبه في الطابق الأرضي.
عقرب الساعة في معصم رابين كان يشير إلى الثانية عشرة و17 دقيقة. وهنا صرخ داخل الطائرة كلمة الانطلاق بالعبرية. وتقدمت فرقة الكومندوس من شاطئ البحر، يتزعمها الضابط ناهوم ليفي (32 سنة) التابع للفرقة الخاصة من منظمة «الموساد». وعرف ناهوم بمغامراته الشرسة، الأمر الذي دفع «الموساد» إلى تكليفه بتنفيذ العمليات الصعبة بواسطة الفرقة الخاصة. ولكنه قتِلَ سنة 2000 عندما قذفته شاحنة عن ظهر دراجته النارية. وقالت أرملة أبو جهاد، انتصار الوزير في حينه إن الله سبحانه وتعالى استجاب لصلواتها وخطف روح قاتل زوجها.
وبقي سر تلك الجريمة بالنسبة إلى إسرائيل مخفياً، طوال عشرين سنة، إلى أن قررت صحيفة «يديعوت احرونوت» الكشف عن تفاصيلها وخفاياها. وذكرت الجريدة أن سيارات الوحدة الإسرائيلية توقفت على مسافة بعيدة من فيلا خليل الوزير. وهي الفيلا التي أمنتها له الدولة التونسية. ولما ترجل الكوماندوس من زوارق نقلتهم إلى الشاطئ من بارجة إسرائيلية، راح ناهوم ليفي يترنح مخموراً على الطريق، وقد تأبط ذراع جندي متخفياً بزي امرأة. تماماً مثلما فعل ايهود باراك الذي اغتال في بيروت كمال ناصر وكمال عدوان ويوسف النجار.
والطريف في تلك الليلة أن ليفي كان يتنزه مع الجندي المتنكر بزي امرأة شقراء، وقد حمل علبة حلوى كبيرة خبأ فيها مسدسه الكاتم للصوت.
الضحية الأولى كانت سائق أبو جهاد الذي شوهد يتكئ برأسه على مقود السيارة، عندما عاجله أحد رجال الكومندوس بطلقة في رأسه من مسدس صامت، نوع «بيريته». عنصر آخر من فرقة القتل فجّر قنبلة بلاستيكية تحت بوابة الحديد الخارجية، الأمر الذي أحدث صوتاً عند ارتطام البوابة بالدرج الرخامي.
عندما أطل حارسا خليل الوزير من باب القاعة للتعرف إلى سبب القرقعة، انهمر الرصاص عليهما من رشاشات الـ «عوزي». ولما أطل المستهدَف من باب مكتبه، رماه قائد العملية ناهوم ليفي برصاصتين استقرتا في رأسه. ولما هوى مضرجاً بدمائه، أطلق على صدره رصاصتين بغرض تأكيد الوفاة.
وبينما استدار القاتل ليغادر المكان، رأى أم جهاد وهي تصرخ وتولول مذعورة، وقد حملت طفلها بين ذراعيها. ونهرها القاتل مهدداً بأن تعود إلى غرفتها حالاً.
وعندما انتهى تنفيذ عملية اغتيال القائد الفلسطيني، خلت الفيلا حالاً من المقتحمين. وعلق رابين وهو في طائرة القيادة والمراقبة بأن العملية استغرقت 13 ثانية فقط.
صباح اليوم التالي، جوبه إسحق رابين بانتقادات قاسية دشنها الوزير في الحكومة عازر وايزمان. وقال في خطابه الناري: «إن التصفيات الجسدية لا يمكن أن تحرز أي تقدم باتجاه السلام المنشود».
كانت عصابة الاغتيال مؤلفة من 26 عنصراً تابعين لفرقة الكوماندوس. وقد نُقِلت الرشاشات والبنادق «العوزي» والمسدسات والقنابل اليدوية على متن بارجة سياحية بغرض التمويه والتضليل. وظلت الباخرة راسية قبالة الشاطئ التونسي أكثر من أسبوع. ولما أذنت ساعة الصفر، نُقِلت الأسلحة من مخازن الباخرة عند مطلع الليل.
تعترف قيادة «الموساد» بأن أبو جهاد ظل وقتاً طويلاً مجهول الدور، ومغمور المهمات. ومع أنه كان يعيش في تونس، وينشط من فيلته، إلا أن مساعديه الكثـُر كانوا يوزعون توجيهاته وإرشاداته في كل مكان من فلسطين المحتلة. خصوصاً عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح» محمود العالول، الذي كان أحد أبرز المساعدين، وأكثرهم نشاطاً داخل الضفة وخارجها.
المهم، أن الاستخبارات الإسرائيلية اضطرت إلى نقل استطلاعاتها وتجسسها من مراكز المقاومة الفلسطينية في لبنان إلى مراكز الفلسطينيين في اليونان وتونس. وكان «أبو جهاد»، الذي أطلق عليه «الموساد» لقب «الثعلب»، الهدف الأول لعمليات الاغتيال والاعتقال. ولكن جميع المحاولات باءت بالفشل، حتى محاولة خطفه بعدما خطط هو لمهاجمة تل أبيب سنة 1975. أو بعدما خطط لإطلاق انتفاضة الحجارة التي أتعبت القوات الإسرائيلية أكثر من أي سلاح آخر. وقد انتشرت على مختلف المستويات، وبواسطة مختلف «الأسلحة» غير القاتلة، كالمقلاع و «النقيفة» المصنوعة من خيوط المطاط.
وحدث مرة خلال إحدى الحفلات الخيرية التي أقيمت في قاعة «ألبرت هول» في لندن لمساعدة الانتفاضة الفلسطينية الأولى، أن وقف زائر من الضفة الغربية، وقال إنه حمل من فلسطين حجراً رماه على جندي إسرائيلي. ثم طلب أن يُباع ذلك الحجر بالمزاد العلني على جمهور الحاضرين. ورست القرعة الأخيرة على عبدالعزيز شخشير (أبو أكرم) بمبلغ يزيد على تسعين ألف جنيه استرليني. وهكذا أصبح الحجر أغلى من الذهب، لأن له غاية وطنية صنعها الشهيد «أبو جهاد».
سنة 2007، أصدر الكاتب أندريه فيرساي كتاباً حول القضية الفلسطينية اختار لمراجعته ومناقشته بطرس بطرس غالي، أمين عام الأمم المتحدة الأسبق… وشمعون بيريز، الذي هاجر من بولندا إلى إسرائيل سنة 1923. ثم اختاره ديفيد بن غوريون للإشراف على القنبلة الذرية في مفاعل «ديمونا» بواسطة خبراء فرنسا. ومن بعدها تولى مراتب مختلفة، إلى أن وصل إلى وزارة الخارجية ورئاسة الحكومة الإسرائيلية، ورئاسة «حزب العمل».
ولما قرأ أندريه فيرساي الفصل المتعلق بالانتفاضة الفلسطينية الأولى قال: «لقد اندلعت الانتفاضة الأولى بطريقة غير متوقعة. الشرارة التي أشعلت البارود كانت حادثاً عادياً من حوادث المرور. ففي يوم 8 كانون الأول (ديسمبر)، اصطدمت دبابة بعدد من الشاحنات التي تنقل العمال الفلسطينيين إلى مواقع أعمالهم داخل إسرائيل. وحقيقة الأمر، أن الحادث كان مجرد عملية انتقامية مقصودة رداً على مقتل إسرائيلي قبل يومين. وعلى الفور خرج آلاف الفلسطينيين من مخيماتهم للاشتراك في مراسم الدفن، وهم يهتفون: «الجهاد… الجهاد… أبو جهاد».
وفي اليوم التالي، رشق شبان فلسطينيون شاحنات النقل الإسرائيلية بالحجارة. وكان الرد عليهم بإصابة عدد منهم واغتيال شاب استخدم الحجارة لرمي جنود الاحتلال بها. وهكذا اتخذت انتفاضة الحجارة أبعاداً لم تشهدها من قبل بحيث بلغت بسرعة القرى الفلسطينية الأخرى.
ولما سأل فيرساي بطرس غالي رأيه بتلك الانتفاضة قال: تشهد الانتفاضة على الجانب الذي لم يكتمل من سلام كامب ديفيد. السلام الذي وصف بأنه الحلقة الأولى من سلام إسرائيلي – عربي شامل، في حين لم يكن قادراً على حل المشكلة الفلسطينية.
وزاد عليه الكاتب قائلاً: يمكن النظر إلى الانتفاضة أيضاً على أنها احتجاج ضد منظمة التحرير، وضد الحكومات العربية التي أثبتت عدم فعاليتها في مساعدة الفلسطينيين. ومثل هذا التفسير يمكن أن يترجم تمرد الانتفاضة الثانية… والانتفاضة الثالثة التي تُخاض حالياً بالسكاكين فقط.
وعلى الرغم من ضعف هذا السلاح البدائي، فقد وصل أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون إلى المنطقة حيث اجتمع برئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو والرئيس الفلسطيني محمود عباس، وطلب منهما عدم صبّ الزيت على النار!
وقد عبَّر وزير خارجية ألمانيا فرانك فالتر شتاينماير عن مخاوفه من عواقب الانتفاضة الثالثة بالقول في «مؤتمر منظمة الأمن والتعاون الأوروبي» الذي عُقِد في منطقة البحر الميت: لا يمكن تثبيت سلام دائم في الشرق الأوسط، إلا إذا طبقنا حل الدولتين.