تؤكّد المصادر المتصلة بباريس أنّ فكرة التريّث السائدة الآن في لبنان هي في التعبير الدقيق لها، تُعبّر عن فترة التقاط أنفاس بين أزمةٍ كان من شأنها أن تنسفَ التسوية الرئاسية التي تتضمّن «كلمة سر» الاستقرار، وبين ترميم التسوية الرئاسية على نحو لا «يفنى غنم» المطالب العربية، ولا يعيد لبنان إلى مربّع الشلل الذي كان سائداً قبل انتخاب الرئيس ميشال عون.
وتقول هذه المصادر، نقلاً عمّا هو متداوَل في باريس، إنّ فترة التريّث ليست محدّدة بسقف زمني، وإنّ لبنان لن يواجه ضغوطاً من أيّ جهة أو من أيّ نوع، لكي يستعجلَ إنهاءَها.
وتشير المصادر عينها الى أنّ إنتاج صيغة «فترة التريّث بصفتها حلّاً أو مخرجاً للأزمة التي كان لبنان على أبواب ولوجها بعد إعلان الحريري استقالته، كان قد تمّ اعتمادها في صيغتها الأوّلية فكرة قابلة للبَلورة أكثر، منذ اللحظة التي تمّت فيها إطلالة الحريري على قناة «المستقبل»، قبل عودته الى بيروت، وحينها اعتبرَت أجواء في باريس أنّ أهمّ ما في هذه الإطلالة أنّها اطلقَت رسالتين أساسيتين اثنتين: الأولى، انّ الجهود الاقليمية والدولية لعودة الحريري الى بيروت قد اثمرَت، بعد ان كانت واجهَت تعقيدات في فترة الأيام الاولى من وجوده في السعودية. والثانية انّ كلام الحريري في خلال إطلالته التلفزيونية اتّسَم بأنه تركَ نوافذ للحلّ يمكن البناء عليها بعد عودته الى لبنان.
ومنذ تلك الفترة بدأ التخطيط ضمن البيئات التي تشارَكت منذ البداية، بإنتاج حلّ لأزمة الاستقالة، لوضعِ اللمسات التقنية والسياسية الكفيلة بأن تحصل عملية عودة الحريري الى بيروت في مناخ سياسي تخدم استدامة أجواء الوحدة الوطنية التي سادت لبنان بفِعل انّ كلّ مراجعِه السياسية تقريباً، اصطفّت وراء شعار «عودته أوّلاً».
وعليه، تمّت هندسة عملية وصوله الى لبنان وإعلانه قبول مبدأ التريّث، على نحوٍ يراعي ان تحصل تقنياً ضمن مناخَين أو خطوتين: أوّلاً أن تجري عملية هبوط طائرة عودته السياسية الى بيروت بأسلوب «الهبوط الهادئ»، وهو مصطلح كان قد استَخدمه أمس الأوّل وزير الداخلية نهاد المشنوق خلال وصفِه الأجواءَ التي اكتنفَت عودة الحريري الى لبنان.
والثاني أن يطلق الحريري موقفَ قبوله بتسوية «التريّث» في أجواء يوم عيد الاستقلال تحديداً، والهدف من ذلك إظهار موقفِه هذا، بأنه لا يشكّل معنوياً تنازلاً عن بيان استقالته الاوّل أو انقلاباً عليه، بل إنه يأتي استجابةً لأجواء الوحدة الوطنية التي تعمّ احتفالات عيد الاستقلال.
وحول طبيعة الخطوة التالية التي ستَلي فترة التريّث، تنقل المصادر عينُها عن أجواء متابعة لهذا الملف في باريس، انّ المنتظر هو احدُ ثلاث سيناريوهات، وجميعها تقع تحت خط الحفاظ على الاستقرار، وأيضاً عدم تهديم التسوية الرئاسية، بل إعادة ترميمِها عبر إدخال تعديلات ممكنة عليها:
ـ السيناريو الاوّل هو الذهاب الى طاولة حوار وطني يدعو اليها رئيس الجمهورية، أو أقلّه استشارات سياسية منفرده يُجريها مع القوى السياسية، وذلك لاستكشاف إمكانية صوغ أجوبة لبنانية رسمية على اسئلة الهواجس السعودية او حتى العربية.
وثمّة مَن يقترح ان يتمّ إعلان رئيس الجمهورية عن هذه الأجوبة لحظة توصّلِه اليها، وذلك في بيان يَصدر عن قصر بعبدا، ويتمّ إثر إعلانه تلبية عون دعوةَ الكويت لزيارتها التي كانت تأخّرت بسبب أزمة الاستقالة المفاجئة، على ان تلعب الكويت دورَ الملطّف للعلاقة بين بيروت والرياض.
ولا يوجد كثيرُ تفاؤلٍ بإمكانية نجاح هذا السيناريو، نظراً لوجود «فيتو» لدى أطراف عدة في لبنان على مجرّد فكرةِ العودة الى أسلوب «طاولة الحوار» الذي استهلكته الأزمات السابقة المماثلة للحالية.
اضِف انّ «حزب الله» يرفض عقد طاولةِ حوار وطني حول سلاحِه، خصوصاً في هذا التوقيت الذي تشهد فيه الأزمة السورية لحظة عضِّ أصابع بينه وبين اسرائيل على خلفية مطالبةِ الأخيرة بانسحابه لنحو 50 كلم وراء خط حدود الجولان المحتل.
ـ السيناريو الثاني الذي قد يكون تعويضاً عن طرح مسألة سلاح «حزب الله» الآن يتمثل بإجراء تعديل على قانون الانتخاب الحالي، خصوصاً انّ هناك شكوى داخلية وخارجية من أنّ هذا القانون يَخدم تعزيز تمثيلِ «حزب الله» النيابي في الانتخابات المقرّرة في أيار المقبل.
وأبرزُ ما هو مطروح للتعديل اعتمادُ صوتين تفضيليَين بدلاً من الصوت الواحد. وثمّة رهان في هذا المجال على انّ إضافة هذا التعديل على قانون الانتخاب ستُمكّن من إعادة هيكلة صورة الخريطة السياسية في لبنان على نحوٍ يَسمح بإنشاء تحالفات عريضة ترفع شعاراً يطالب بتعديل سلوك «حزب الله» الداخلي وفي الاقليم، وبذلك تكون هناك إمكانية لترحيل مسألة النظر في المطالب العربية الى ما بعد الانتخابات بدلاً من ان يكون لبنان محشوراً بتقديم اجوبةٍ عن الهواجس العربية خلال فترة اسبوعين او ثلاثة تبدأ مع انتهاء فترة التريّث.
وتبقى الإشارة المهمّة انّ كلّاً مِن هذين السيناريوهين، وإليهما أفكار اخرى، لا تزال مجرّد سيناريوهات افتراضية يتمّ التفكير فيها بصوت مرتفع لدى المهتمّين بملف لبنان في باريس، بغية ايجادِ مخرج لِما تبَقّى من أزمة الاستقالة.
وحتى اللحظة فإنّ القرار الوحيد المتخَذ دولياً وإقليمياً هو تجميد استقرار لبنان عند نقطة ما قبل يوم 4 تشرين الثاني الجاري، امّا الوسيلة فهي لن تكون إلّا نوعاً من الإخراج المطلوب لهدف استمرار الاستقرار المنشود والذي كان اتّصال مستشار الأمن القومي الاميركي هيربرت ماكماستر أمس بالحريري هو أكبر رسالةِ تشجيعٍ أميركي عليه.