كلام في السياسة |
يربض ميشال عون في رابيته هذه الأيام، من دون كلمة ولا حركة. يعتبر أن آخر واجباته الرئاسية، قد أتمها قبل عامين ونيف. يوم حاور سعد الحريري في باريس. وتبادلا كلاماً لم يعلن بعد، ولم يكشفه أي منهما. وبقاء ذلك الكلام طي الكتمان دليل على صدق الرجلين وجدية مسار حوارهما المبتسر قسراً.
بعدها حاور وليد جنبلاط. ولا يزال سلف تيمور بيك يردد تلك العبارة التي أسرّ بها إليه الجنرال قبيل انتهاء لقائهما الأخير: استقرار الجبل. أياً كانت سياساتنا. إنها الأولوية، من أجل الناس والبلد… الباقي كله أنجزه. لا شيء يقوله مما لم يعلنه أو كرره طيلة عقد أو ربع قرن أو نصفه.
يرابط عون في الرابية اليوم، راصداً كل المؤشرات الإيجابية في اتجاهه. داخلياً، كلام الحريري الأخير عن استعداده لتهنئته بالرئاسة، إذا ما فاز فيها، رصد فوراً. وسجل في خانة أكثر تقدماً من كلام زعيم «المستقبل» بعيد عودته إلى بيروت، عن أنه لن يزور أحداً. أصلاً، كل المعنيين بـ «حالة» الحريري يكررون أن عون بات منقذه الوحيد. بين دعوة محمد بن سلمان إلى دائنيه للذهاب إلى مقاضاة أوجيه، وبين الخروج المستمر والمتمادي لرجال «المستقبل» عليه، من خالد ضاهر إلى أشرف ريفي، وبين القضم الإسلاموي لقواعده، والمعركة الجنبلاطية مع بعض أذرعه، من السنيورة إلى المشنوق وصولاً إلى أوجيرو، وبين المعارك الداخلية في قلب تياره… وخصوصاً خصوصاً، وسط انسداد الأفق الإقليمي، يجزم المطلعون على «حالة» الحريري أنه لم يعد أمامه إلا عون.
الوضع على خط الرابية ــــ كليمنصو أفضل بكثير. كلام جنبلاط الأخير عن أن لا مشكلة لديه مع رئاسة عون، مؤشر متقدم وإن متكرر. على هذا الخط، منسوب الكيمياء أعلى نسبياً. عشاء شامل روكز الأخير في الدارة البيروتية فتح أكثر من نافذة وباب. وكرس مساراً أولياً لبناء ثقة، يتم تلمسه بالتجربة وبتأن.
حتى على خط الرابية ــــ بنشعي، الوضع أفضل نسبياً، مقارنة بجليد الأشهر الماضية. عادت الرسائل بالواسطة. وعاد كلام الأبوة والبنوة «الإشكاليتين». وعاد خصوصاً جو الاندراج تحت سقف الفريق الواحد، لا الخارق له. تطور قد يعزى فضله الأول إلى الوقت، أفضل علاج للأزمات البيتية. كما إلى مناخ الإدراك والاستدراك بأن لا شيء حاسماً في أي اتجاه سياسي ولا رئاسي، كما سوق البعض وروج من خارج الطرفين.
في الخارج المؤشرات كافة لا تقل إيجابية. بين واشنطن وباريس والرياض والقاهرة، بدأ يتكوّن اقتناع واضح أن لا مفر من عون. في استحقاق 2007 المؤجل بضعة أشهر حتى أيار 2008، نضجت الطبخة الرئاسية على نار معادلة القبول بأهون الميشالين! فوصل ميشال سليمان بالصدفة إلى بعبدا. في استحقاق 2014 المؤجل سنتين ونيف، بدأ الجميع يدرك أن المطروح ميشال واحد. وجنرال واحد. السعودي لا يبدي أي سلبية مباشرة. لا بل إن السفير في بيروت لا يتردد في الإعراب عن كل الإيجابية. والواضح ههنا أن «شغل» سمير جعجع في الرياض كان مثمراً نسبياً. المصري خرج من فكرة مبادرته الحوارية التي طرحها تكراراً مع مشروع زيارة وزير خارجيته إلى بيروت، التي ألغيت مرتين. الآن انتقل إلى مرحلة الحوار الثنائي المباشر مع الرابية. حوار يحمل بشكل خفي شيئاً من لائحة أسئلة واستيضاحات. كمن يستكمل معطياته قبل الاستقرار على قرار، أو قبل الإقرار به.
غربياً المؤشر الإيجابي أكثر وضوحاً. تجسده قصة الرئيس على سنتين. فالمسألة كما يروى، بدأت بحياكة لبنانية داخلية. طرحها أحدهم في المنطلق كحل للمأزق الترشيحي بين عون وفرنجيه. كانت الفكرة أن يتم الاتفاق على رئاسة مختصرة لعون، مع برنامج إصلاحي كبير، بما يرضي الرجل لجهة توجهه الإنقاذي. ثم يتم التلويح للآخرين بأن يكون فرنجيه الخلف، بما يرضي الفريق الآخر. ونسجت الرواية من دون وعود ولا عهود. بعدها انتقلت إلى باريس. عبر الأقنية نفسها التي نقلت مشاريع رئاسية سابقة. من باريس عادت إلى بيروت في صيغة سؤال استفساري حمله أكثر من وفد فرنسي حط في العاصمة اللبنانية أخيراً. لكن الجواب كان صمتاً مطبقاً وتجاهلاً كاملاً. حتى أن أحد السائلين اعتقد فعلاً أن مضيفه لم يسمع السؤال. فيما بدا محرجاً وخجلاً من تكراره! غير أن اللافت جداً على هذا الصعيد، كان التلقف الخليجي لخبرية السنتين. تلقف أوحى كأن هناك من يسعى إلى التمسك بأي طرح يمكن أن يشكل ثغرة مقبولة في الجدار الرئاسي القائم.
كل المؤشرات الإيجابية مرصودة ومسجلة في الرابية. لكن الوقت عدوها الأكبر أو حتى الأوحد. وهو ما يفرض على فريقها تحديد لحظة معينة للتحرك. أو للمبادرة في اتجاه ما أو في أكثر من اتجاه. من يحدد تلك اللحظة وهذه الاتجاهات المطلوبة؟ الأمر متروك لعون وحده. لكن الأكيد أن زمن الانتظار بدأ يطل على نهايته.