IMLebanon

غربة «العمل» عن الاحتفال بالأول من أيار  

هل ما زال للأول من أيار، عيد العمال العالمي، قيمة حيوية نضالية،اجتماعياً وسياسياً، في بلدنا؟ أم أنه يوم للنوستالجيا، لما تواتر من صور وأخبار تفصلنا عنها عقود طويلة، وتعود الى فترة ما قبل الحرب الأهلية، حين كان يمكن الحديث عن حركة عمالية لبنانية، ترفدها أيضاً الحركة الطلابية؟

فالنقابات العمالية اللبنانية لم تعد تعبّر منذ وقت طويل عن قاعدة اجتماعية الا بشكل جزئي ومبتسر. لا تقارن حيثيتها التمثيلية لفئات العاملين بأجر الذي يفترض فيها أن تمثل حقوقهم ومطالبهم وتطلعاتهم بما لنقابة المعلمين مثلاً من حيثية تمثيل للجسم التعليمي، ولا بما لنقابات المهن الحرة بالنسبة الى القطاعات التي تنبثق منها.

أما الأحزاب اللبنانية، الكبيرة منها والمتوسطة والصغيرة، سواء التي حافظت على جماهيريتها أو أوجدتها في العقدين الاخيرين، أو التي فقدتها، فانها تمتلك جميعها، بمسميات مختلفة، قطاعات عمالية، لكنه يمكنه بسهولة الاتفاق على مشترك واحد بين معظم هذه الأحزاب، وهي أن العاملين بأجر، وخصوصاً في الانتاج الصناعي، لا يؤثرون على مطابخ صنع القرار في هذه الأحزاب، بل ان التشكيك بوجود طبقة عاملة لبنانية في المنشآت الصناعية قائم على أوسع نطاق، سواء بالنسبة الى من يرى أن الطبقة العاملة بالمفهوم القديم للكلمة، والذي يربطها بالانتاج الصناعي، قد طويت صفحتها في التاريخ، وأن الطبقة العاملة بمفهوم أكثر رحابة وأوسع صدراً، يمكن أن تتسع لكل الموظفين، من معلمين وموظفي مصارف، بل يمكن أن تتسع لكل من يقوم بجهد ذهني او عضلي أو الاثنين معاً، بما يجعلها أكثر من فضفاضة، وليس ما يميزها كطبقة عن عموم الناس. وثمة من يستعيض عن التحديد من حيث المهنة بالتحديد من حيث الدخل، وثمة من يعود الى المفهوم الكلاسيكي الصناعي المحور، عن الطبقة العاملة، انما للقول بأنها في لبنان أجنبية، سورية أو مصرية أو آسيوية في أعمها الغالب. وثمة من يرى هذه الطبقة العاملة في اللبنانيين الذين يذهبون للعمل في الخارج ويحولون أرصدة الى الداخل اللبناني، وثمة من يرى الطبقة العاملة اللبنانية «بالنيغاتيف»: اللبنانيون العاطلون من العمل. باختصار، الطبقة العاملة اللبنانية اليوم هي «شبح» يراه كل صاحب نظرة في مطرح مختلف عن الآخر.

بقي أن الطبقة العاملة، بالمفهوم القديم، الصناعي، ظهرت أخيراً، حية ترزق، في انتخابات أميركا وفرنسا، انما لتعبّر هذه المرة عن «وعيها الطبقي» بالتصويت لأقصى اليمين.

أما «العمل» – الذي طالما احتج اليساريون بأن المقصود بالاول من أيار احتفال العمال بأنفسهم كطبقة وليس بالعمل بحد ذاته كقيمة، وأنماطه المختلفة في هذا العصر الرقمي، والمتفاوتة بين البلدان – فان اشكالياته الراهنة، محلياً كما عالمياً، ما عادت تحصر في طبقة اجتماعية بعينها. العمل، ومعناه، وقيمته، وأشكال حمايته، وعوارض هشاشته، صار في وقت واحد اشكالية أكثر فردية من كل وقت سابق، واشكالية أكثر كونية، تعني الكوكب ككل. لماذا ولمن نعمل؟ هل الاعمال غير المنتجة لسلع هي أعمال حقاً؟ هل يكون تصالح الواحد مع عمله بتحسين شروط هذا العمل المادية والمعنوية فقط، أو بتحسين الابداعية في هذا العمل، وتجاوز عهود «العمل بالسلسلة»، والعمل الرتيب، المعطل لملكة الابداع في الانسان؟.

اذا كانت النقابات العمالية في بلدنا قد صارت أشبه ما يكون بـ «كاروسري» سيارة متلفة، واذا كانت القطاعات العمالية في أحزابنا على هامش هذه الأحزاب، واذا كانت الطبقة العاملة قد أضحت شبحاً، يحدده كل واحد على قدر معرفته و«حدسه»، يبقى العمل، هو المقام الأكيد العنيد الوحيد، الذي يمكن بالتفكير فيه احياء الاول من ايار، بشيء من التأمل.. نعم التأمل، فالتأمل ليست كلمة سلبية دائماً. وفي أحيان كثيرة، التأمل أولى من «النضال».

العمل؟ او بالأحرى «تحرير العمل» – كما تسمت واحدة من أولى المجموعات الماركسية في روسيا القيصرية نهايات القرن التاسع عشر. وتحرير العمل ما عاد يركن فيه الى وصفة برنامجية جاهزة، انه يعني اليوم قبل أي شيء آخر، التصالح مع التعدد الفظيع في أنماط العمل وأشكاله، بحيث لم يعد من الممكن حصره في «العمل المأجور» بمواصفاته القديمة.