IMLebanon

الشارع شريكاً في الإستشارات.. والمحاذير تتعاظم

 

 

ليس أدلّ على عمق قوة الانتفاضة الشعبية في وجدان الشعب من جهة، وتأثيرها على سلوك السلطة من جهة ثانية، من استمرارها للأسبوع الخامس على التوالي بإبداع ودينامية وفي جميع المناطق. المشهد يستنطق مطالب وأمنيات كانت كامنة في أعماق كثيرين لعقود، ويواكب طموحات أجيال ما بعد الحرب، وما بعد سيطرة السلاح واستفحال الفساد.

 

كل ذلك، على رمزيته وتعبيراته لا يُقلّل من حجم التحديات والمخاطر الكبيرة، بل الكبيرة جداً التي تتربص بما تمّ انجازه حتى الآن. كمونُ ردةِ فعل السلطة لا تعني الاستسلام أو التسليم بالوضع الجديد، والردّ السلطوي بكافة أشكاله وارد؛ العنف، التشويه، الاستدراج للعنف، الاستنزاف، ناهيك عن المخاطر الاقتصادية والنقدية والحياتية الضاغطة التي تكتفي السلطة والجهات المالية المعنية باتخاذ موقف المتفرج على ذعر المواطنين وحيرتهم (أو التلذذ بهذا المشهد ربما).. لكن الخطر الأكبر يكمن في تراجع الناس عن الساحات فذلك سيفتح باباً عريضاً للانتقام والتشفي بكل الأشكال من كل شابة أو شاب شارك بصرخة أو موقف أو تغريدة أو رأي.

 

باسيل وتخطي الرئاسات

 

هذا التقدير لا يعني أن قوى السلطة تملكُ زمام المبادرة، أو تتحكم بإدارة اللحظة. على العكس ثمة حيرة وارتباك، خصوصاً بعد واقعة «الصفدي» التي خلّفت تداعيات عميقة على ما يبدو في ما بقي من التسوية الرئاسية. فالرئيس سعد الحريري ردّ على البروباغندا التي تريد تحميله مسؤولية المراوحة، وإفشال طرح اسم محمد الصفدي لرئاسة الحكومة يحظى بالتوافق والبركة والرضا، وأوضح مكتب الحريري أن «سياسة المناورة والتسريبات ومحاولة تسجيل النقاط التي ينتهجها التيار الوطني الحر سياسة غير مسؤولة مقارنة بالأزمة الوطنية الكبرى»، داعياً إلى «الكفّ عن انتهاج هذه السياسة عديمة المسؤولية ومحاولاته المتكررة للتسلل الى التشكيلات الحكومية»، وهو ما لم يرق للتيار العوني الذي عاد وهاجمه بعنف.

 

الجميع يعلم أن باسيل، بالاستفزاز عينه، بالمخالفة الدستورية أو – بتحديد أكثر – بالدوس على الدستور خرج قبل أيام ليحدد اسم الرئيس المكلف وموعد الاستشارات وشكل الحكومة العتيدة. هنا اللوم ليس على باسيل أو رئيس الجمهورية. بدقة وشفافية هذه دعسة ناقصة شارك فيها أركان السلطة جميعاً «كلن يعني كلن» من خلال السماح بالاستخفاف المتكرر والفاضح بالدستور والذي يصل إلى الإيحاء بتغيير طبيعة النظام اللبناني!! وكل ذلك يثبت للمرة الألف أن الطبقة السياسية عاجزة وغير قادرة على ممارسة الحكم إلا بذهنية المحاصصة والفساد والمحسوبيات والتحالف مع (أو بغطاء من) قوى الأمر الواقع، وأن الدستور ليس سوى وجهة نظر، وأن القوانين أدوات، نعم مجرد أدوات، للنيل من المخالفين أو المعترضين أو الخصوم، لا مكان لمواطنة وحقوق ومؤسسات. وكان من شظايا ذلك طرح اسم الصفدي، وربما آخرين لاحقاً، ثم حرقه.

 

مرشح الليلة ونصف نهار

 

نعم إن مناورة باسيل بسيناريو «مرشح الليلة ونصف نهار» حرقت الصفدي على مستويين: سياسياً من خلال طرح اسمه خارج السياق الدستوري الذي ينتظره اللبنانيون منذ استقالة حكومة الحريري في 29 تشرين أول الماضي المتمثل بالاستشارات النيابية الملزمة، وحرقته ثانياً في الشارع الذي رأى بمجرد طرح الاسم استفزازاً لا قعر له، لأنه، ببساطة، عودةٌ بالزمن إلى ما قبل صرخة الشعب في 17 تشرين ضد الطبقة السياسية، وكأن لا ثورة قامت ولا أشياء كثيرة تغيرت على الأرض!

 

عمق المشكلة هي في الخفة التي يتم التعاطي بها مع مسألة التكليف بوصفها مسألة دستورية وميثاقية وبوصفها أيضاً مطلباً للشعب (وذلك نتاج ذهنية الإرعاب لفرض أمر واقع، أو الاستيهام بأن طبيعة النظام قد تغيرت)، بدءاً من الاستدعاءات إلى قصر بعبدا غداة استقالة الحريري لإجراء ما يشبه «مقابلات أداء» مع بعض الطموحين، مروراً بربط التكليف بالتأليف ووضع شروط مسبقة لشكل الحكومة وبرنامجها، وصولاً إلى الطريقة التي تمّ طرح فيها اسم الصفدي، وذروة الاستفزاز فيه خروج باسيل يوم الجمعة للحسم بتكليف الصفدي وموعد التشكيل وشكل الحكومة، وفي ذلك مصادرة «ثلاثة بواحد» لصلاحيات رئاسة الجمهورية ومجلسي النواب والوزراء.

 

وبعيداً عن تحليل فوبيا «التضخم الذي يوحي لصاحبه بأن ورمه عضلات»، إن ما يجري يعيد طرح السؤال – الأسئلة: لماذا يستمر الرئيس عون بقطع طريق الاستشارات. لتُسمّ القوى السياسية من تشاء وفق الأصول الدستورية، تجاوباً مع مطالب الناس، وليفز بذلك من يفوز طالما أن إخراج الحكومة يحتاج توقيع رئيس الجمهورية؟!

 

 

الشائعات كسياسة مقصودة

 

إن سعي أطراف للاتفاق على تسمية شخصية لرئاسة الحكومة بالقفز فوق الدستور ومقتضياته، وبغض النظر عن ضرورة أن ينال الاسم المطروح رضا الانتفاضة، هو مزيد من الدعسات الناقصة التي لا تراعي هواجس اللبنانيين، وكل ذلك يوصل ليقين مفاده أن خروج الناس من الشارع والعزوف عن مطالبهم يطرح مخاوف جدية من ممارسات انتقامية لا يعرف أحد مداها، أو لجوء أطراف للعب بأمور قد تنزلق بالبلد نحو حرب أهلية.

 

ليست مزحة أو سقطة لسان من وزير اشتهر بكثرة كلامه، المفيد وغير المفيد وبمناسبة ومن دون مناسبة، الإشارة إلى الحرب الأهلية(!!)، فكل أداء السلطة لاحتواء انتفاضة الشعب تثبت أنها لن تتوانى عن أي خطوة في سبيل إزاحة ما تعتبره خطراً يمثله الشعب ضد مصالح الطبقة الحاكمة. وهي سبق أن لجأت فعلاً إلى ممارسات متنوعة وسياسات كيدية على امتداد أسابيع وأيام الحراك؛ من الضغط والتهويل والترهيب، إلى زرع المخبرين لتخريب وتشويه التظاهرات، إلى العنف الذي أسقط ضحايا وجرحى، إلى الاعتقالات والتوقيفات والاحتجاز غير القانوني، وصولاً إلى السعي لقلب الصورة بالشائعات والتشكيك والاتهامات بواسطة وجوه تنتمي لحقبة ما قبل 17 تشرين… والآتي، ربما، أعظم.

 

أمس، دعا قائد الجيش العماد جوزاف عون إلى «الابتعاد عن الشائعات التي تهدف إلى تضليل الرأي العام وإحداث شرخ بين المواطنين والمؤسسة العسكرية»، وهذا موقف شديد الأهمية والمسؤولية الوطنية. إن كمية الشائعات التي يَتم ضخّها للتهويل على الرأي العام، تارة بأبعاد أمنية أو حياتية أو مالية، وما تثيره من اضطرابات وإرباك في بلد هو أصلاً مربكٌ ويُدار وفق ردات الفعل وايقاع التسريبات، كل ذلك يمكن قراءته كضخّ مسموم ولا يمكن وضعه إلا في إطار استدراج ساحات ومناطق معينة إلى الصدام لخلق أمر واقع يفتح الباب على المجهول.

 

وهذا يؤكد مجدداً أن المرحلة شديدة التعقيد والضبابية والصعوبة، فالقوى السياسية تكابر وتسعى للالتفاف على مطالب الناس لإعادة عقارب الساعة إلى الماضي. الجميع يعلم أن تشكيل حكومة مهم لكنه لا يكفي، فثمة مطالب أخرى ليست أقل أهمية تتعلق بفساد منظومة سلطوية شاملة حوّلت الدولة لمزرعة، وتحرص على تأمين استمرارية بعضها بعضاً.

 

إذا كان لتجربة، أو مزحة طرح، اسم الصفدي وسرعة سحبه من مغزى، فهو أن الثورة تسير بشكل صحيح، وأنها خلخلت أركان السلطة الحاكمة والمتحكمة منذ عقود، وأن أي اسم يتعلق بالحكومة العتيدة، رئيساً وأعضاء، لن يحظى بموافقة الشارع لن يمر. الزمن تغير لكن المخاوف ما تزال كبيرة.