حدث منذ أسبوع امتحان انتخابي في «التيار الوطني الحر»، أسفر عن تجدد الصراع بين المال والنضال. أُثيرت أحقية المناضل في التمثيل، على حصة المتموِّل في السلطة، أو في من يستحق «الطريق إلى السلطة».
هناك ظواهر تحدث اليوم، كانت قد جرت بالأمس، وستتكرر غداً ودائماً، ومنها ظاهرة غلبة المال على النضال. فللمال ديمومة «المنافع»، وللنضال انتماء إلى الأخلاق. ثبت في التاريخ أن خللاً دائماً يستحكم بين النضال والسلطة، في مقابل انسجام عضوي بين السلطة والمال. بل وغالباً ما تتحول السلطة إلى نقمة للمناضلين. السجون امتلأت مراراً برفاق السلاح وبرفاق النضال. السلطة تتسع لقلة. الثورة تتسع للجميع. يسقط الجميع وتبقى القلة. التاريخ لم يخطئ في إبراز هذه المعادلة. وكي لا نذهب بعيداً في ماضي الثورات وخواتيمها، نتعكَّز على ما أسفرت عنه النضالات العربية، الحزبية والثورية والانقلابية: أحمد بن بللا ينتهي سجيناً في الجزائر لربع قرن، بعد رئاسة قصيرة. عبد السلام عارف في العراق، يُستفرَد، وينفرد عبد الكريم قاسم بالسلطة. لم يبق من أعضاء مجلس قيادة الثورة في مصر، إلا قلة تدور حول جمال عبد الناصر. «البعثيون» أصحاب نهج في التصفيات والمطاردات للمناضلين السابقين في كل مكان. معمَّر القذافي صادر النضال والبلاد والعباد، ومن ليس مع سلطته، هو إما مفقود أو مبعد. عبد السلام جلود شاهد على ذلك. اليمن، في شقه الماركسي اللينيني كان صاحب فتح في ممارسة التصفيات. معظمهم قتلوا بأسلحة الرفاق. توحد المناضلون في المقتلة فقط.
ليس للسلطة أصدقاء وليس فيها أنداد. وبين السلطة والتسلط مسافة يقطعها الفرد القائد بظروف مناسبة. في مثل هذه الأحوال يصير الاستبداد قانوناً. قبل الاستبداد المعمَّم، يحاول المناضلون إثبات أفضليتهم، استناداً إلى تاريخ مضى. الانتصار يضع نقطة نهائية للماضي. يطوي صفحة كتبت. للسلطة كفاءة كتابة نص مستقل عن رجالات الماضي، عبر مصادرة الماضي ومناضليه، بتقديس لحظاته وتمجيدها. أليس قبل الخلاف فضل تشي غيفارا، استمرار الانتماء الى المناضلين في الأدغال، على ان يكون موظفا في إدارة الثورة بعدما أصبحت أسيرة المكاتب وقرارات النفوذ.
تلك محنة حقيقية. من حق المناضل أن يكون شريكاً وليس تابعاً. من حقه أن يكون في الصدارة بجدارة الإيمان المطعمة بالاختصاص والمعرفة والعلم… جرت العادة أن يقصى المناضلون. يتضامن هؤلاء ويقف إلى جانبهم أرتال من ذوي الأخلاق والذين يخطئون الظن في كون حبل الصرّة لا ينقطع بين النضال وبين ممارسة السلطة، أكانت في الحزب أم في الحكم أم في «التيار». كل الجهد المبذول لتصويب البوصلة فاشل. بوصلة السلطة إلى شمال المال. الأخلاق في السياسة لا تزن كثيراً. الأخلاق في حالة إفلاس. فمن طبيعة السلطة أن يكون معيارها تأمين المصالح والتحدث عن المبادئ. المصالح أولاً والمبادئ في ما بعد بكثير من الوقت. المال قادر على تأمين المصلحة بكلفة تتسع إلى حجم من الفساد… في مثل هذا العالم، يتحوّل المناضل القديم إلى «مهرج»، إلى كائن غير واقعي، أسير لحظات القسوة والمرارة، وضحية التضحيات التي بذلها. المناضلون القدماء، يصلحون للزينة في المناسبات، يصيرون ملحقين يستحقون الفرجة والتصفيق. «إكسسوار» ضروري من لواحق السياسة. «مناضل قديم»، عبارة تصلح للتعزية.
وحده صاحب المال مؤهل، في عالم المصالح، لأن يكون إلى جانب السلطة أو في السلطة. مثل هذه المعادلة تفسر الخلل الدائم بين السلطة والنضال، والانسجام المحتوم بين السلطة والمال. المباراة التي حصلت في امتحان الانتخابات في التيار، أبرزت في القاعدة أهمية المناضلين، بعدما أصبحوا مطرودين وخارج التنظيم. وأظهرت سهولة تسلل رجال المال إلى النيابة والوزارة والصدارة. وفي مثل هذا التبدل، يتضاءل الإصلاح، ويتحوّل التنظيم إلى إدارة لا تحاور، مفضلة سلطة النظام على ديموقراطية التنظيم. وبالمناسبة، النظام المطبق ليس مسؤولاً. المسؤولية تقع على من يستعمل النظام لحسم الخلافات من دون حوار أو أطر ديموقراطية… هنا، يفقد «التنظيم» روحه. النظام حرف يقتل أحياناً، أما الروح الديموقراطية، فتحيي. قول ينسب إلى بولس الرسول، وهو على حق. أسوأ ما في الأمر، أن يصبح النظام أو النص، أسلوب مطاردة ومحاكمة، وليس منطقة احتكام للقول والقول المضاد. وبرغم كل ذلك، «يتمتع» التيار الوطني الحر بهامش من «الديموقراطية» المنضبطة بقرارات القائد. ومن حق الجنرال أن يقبض على الديموقراطية وفق مقتضيات الصيغة اللبنانية في إنتاج القيادات واستمرارها. فالجنرال، كان يقول كلمته ويخوض معاركه والكل خلفه. لم يسأل أحدا ولم يسأله أو يسائله أحد. تماماً على الطريقة «الحزبية» اللبنانية، الجنبلاطية والحريرية والكتائبية والقواتية وقريباً «الأملية» تتساوى في الانضباط الوراثي. فلماذا يحرم قائد «التيار» من التوريث، ولماذا مطلوب منه أن يكون مختلفاً. هو بالتحديد، بنى مجده السياسي من خلال الولاء له ولما يقوم به. لم يسأله أحد عن عدائه لسوريا ثم عن صداقته لها. هكذا، حصل ذلك بين ليلة وضحاها، ومن دون حوار. لم يسأله أحد عن خصومته لـ «حزب الله»، ثم عن تفاهمه معه، القواعد منحته ثقتها. لم يسأله أحد عن «الإبراء المستحيل» و «الانتظار المستحيل» مع «المستقبل» الخ… المشكلة ليست في الجنرال، بل في من وعى أنه وقَّع على بياض من زمان. الجماهير الطائفية، تتبع قائدها بالغريزة وليس بالعقل والحوار والنقاش، لا استثناء في ذلك.
إذاً، هذه «أحزابنا» على قياس تخلينا وليس على قياس الالتزام الحر. هكذا تبعية، تنتج هكذا مؤسسات.
الأحزاب العقائدية لم تنج من ذلك. «البعثيون» انتهوا عائلات تتوارث السلطة. التيارات الدينية لم تنج من ذلك. يستثنى الحزب الشيوعي اللبناني في آخر ما أنتجه من قيادة بالديموقراطية. «القوميون» يعيشون حالة انقلابية دائمة، أفرزت «ديموقراطية» على قياس الرجل بظلاله المتشابهة. يبدو كأن الأحزاب هذه، قد ولَّت.
أوجه الشبه في كل ما جاء أعلاه، أن النضال يغلبه المال، وأن الانتماء بالتبعية الطائفية. وعليه، فالجنرال على حق دائماً، ولو كان على خطأ. خطأه صح. الجنرال، يتصرف بما ملكت يداه. «الديموقراطية» منحة منه. من كان يفكر عكس ذلك، يفترض فيه أن يكون في الأساس أساساً لا ملحقاً.
وبرغم كل ذلك، يبقى لهؤلاء المناضلين في «التيار» قيمة «الصحوة»، ولو متأخرة، وعزاء الالتفاف، ولو بلا نفع. المستقبل رهن بأصحاب المال وليس بأصحاب النضال.