عودة البلاد إلى أحوالها الطبيعية وترميم ما لحق بالتلاحم الوطني من أضرارٍ لها مسبباتها الداخلية والخارجية، يسري عليها المثل اللبناني المعروف: «لا تهزّوا… واقف عشوار»، ولا يمر على اللبنانيين يوم إلاّ وتطلع علينا عملية هزّ جديدة «بطلها» الدائم وزير الخارجية جبران باسيل.
فلنتابع مع معاليه وسائل الإعلام المختلفة وهي تصدح بأقواله وتنضح بأفعاله، وجميعها يُطل بها علينا من خارج السياق، متعمدا فرملة ما أمكنه من الجهود الإيجابية المكثّفة التي يقوم بها عقلاء وحكماء هذا البلد المنكوب من خلال «عملية إنقاذ» توسّلوها بإرضاخ أنفسهم لقلب صفحات الفراغ والإفراغ التي فُرِضت على أجواء هذا البلد المنكوب، وتجيئنا الرسّائل الباسيلية ضَاربةً الأسافين السلبية في عمق المصلحة اللبنانية العليا التي كانت «المصالحة الوطنية» التي تمخّضت عنها وعن أجوائها وشروطها، انتخاباتُ رئاسة الجمهورية، وتجاوز لكلِّ الحدود والسدود التي كانت تعرقل وتفرمل مسيرتها، مع توافقٍ على أن ينأى لبنان بشعبه ودولته ومؤسساته الرسمية المختلفة، عن خلافاتِ وتشنّجات ولهيب المنطقة التي يزداد انتشارها حدّة وشدة. كثيرون تقيدوا «بنص» هذه المصالحة وروحها، بمن فيهم فخامة رئيس الجمهورية (باستثناء بعض المواقف الإقليمية التي لاقت اعتراضا وتحفظا) ودولة رئيس مجلس الوزراء وغالبية وزراء الحكومة وبقي استثناء متفرد يخالف هذا الاتجاه، من خلال جملة من أعمال التحريض واستنباش المسائل الخلافية من قبور التاريخ القريب والبعيد، وبخبرةٍ وتفوقٍ في الغوص في المسائل والوسائل التي تثير أكبر قدر ممكن من الحسابات والإلتهابات الخلافية ما بين اللبنانيين، القريبين منهم من التيار العوني والبعيدين عنه.
ولِنقرأ يومياً في وسائل الإعلام بعضا من أفعال وأقوال تلك التصرفات، التي اختصرها وزير الداخلية نهاد المشنوق مشيرا إلى السياسة الخارجية «الشاردة»، ومعتذرا بصفاته التمثيلية كافة من مصر الشقيقة على تصويت لبنان ضد مرشحها في الأونسكو لمصلحة مرشح قطر التي تتعارك في هذه الأيام مع مصر ومع معظم بلدان الخليج وفي طليعتها المملكة العربية السعودية، فإذا بالدولة اللبنانية شاء شعبها أم أبى تقذفه «الديبلوماسية» اللبنانية المستحدثة إلى أحضان ذلك النزاع الخليجي الملتهب، (مع التحفظ على وضعية هذا الاتهام الذي نفاه الوزير باسيل، إلى أن تتبين حقيقة هذين الموقفين المتناقضين المنضويين في إطار عنوانه: لا دخان بلا نار) وإذا بنا نضيف ذلك كله إلى تصرفات أخرى لا تنفك يوما عن إطلاق المواقف النارية والحافلة بالشتائم الموجهة إلى المملكة العربية السعودية، آخذة عليها تصدّيها للمدّ الإيراني المنطلق إلى أعماق المنطقة العربية، مقتحما العراق ومتعمقا في سوريا، وممتدا إلى لبنان حيث تشكلت منه تلك الدويلة التي غالبت الدولة فغلبتها مع الأسف، وها هو الوزير جبران يتجاوز منصبه كوزير للخارجية ويتدخل في شؤون كل الوزارات، ويزور المناطق اللبنانية والدول الإغترابية، وفي كل مكان يتصرف بما يخالف أصول وفصول المصالحة التي جاءت بالجنرال عون رئيسا للجمهورية، متخذا قرارات هي في صميم الصلاحية الحكومية، فيقابل باسم لبنان، ويفاوض باسم اللبنانيين وزير خارجية النظام السوري المدين باستمراريته للمساندات الخارجية وفي طليعتها مساندة كل من إيران وملحقاتها في دول المنطقة، وبصورة أساسية، هو يستمر وبالعون والسيطرة والتحكم الروسي الذي عين نفسه بنفسه مستعمرا أوّلا للدولة السورية وحاكما متحكّما بشعبها وسياستها وقراراتها وحاضرها ومستقبلها، وها هو معالي وزير الخارجية يصرّح بصدد النزوح السوري في خطاب علني بأنه «لبناني عنصري»! ومعلوم ما يلحق بهذه الصفة من استهجان وإدانه على مدى العالم بأسره وها هو يبث الآراء والمواقف التحريضية في الجبل مطلقا مواقفه الحافلة بالنأي عن ما أجمع عليه اللبنانيون، وفي طليعتهم غبطة البطريرك صفير والوزير وليد جنبلاط اللذين كان لهما الفضل الكبير في تحقيق مصالحة كادت أن تكون مستحيلة لولا سياسة ومواقف الحكمة والتبصر، ويذكر الناطقون باسم أهل الجبل بأنهم لن يستدرجوا بصددها إلى منطق الكراهية ونبش القبور، والتفتيش عن عظام أولئك الذين قضوا في أحداث الجبل، متجاهلا في الوقت نفسه أن مناطق ومكونات كثيرة من التركيبة اللبنانية التي شاءت الظروف والأوضاع السلبية التي كانت سائدة في تلك المرحلة السوداء من تاريخ هذا البلد، قد جمعتهم نفس المصيبة، ولكل منهم قبور وعِظام في مواقع الإشتباك المرذولة، وان تصرفات وتصريحات الوزير جبران في هذه الظروف الحافلة بالحقن والإستنفار ستدخل البلاد في أتون مظلم النتائج والعواقب مجيّرا كل هذه المواقف إلى طموحاته الإنتخابية، حيث يأمل في أن ترفعه من مواقع السقوط المتكرر في الإنتخابات النيابية، متسلحا هذه المرّة بتغييرات في خريطة الدوائر التي اعتمدها القانون وبالصوت التفضيلي، ولئن كان يعتبر أن هذه اللغة وهذا النموذج من التصرف سيعززان طموحاته للوصول إلى موقع رئاسة الجمهورية في يوم من الأيام، فإن ردّات الفعل في الأوساط اللبنانية كافة، بما فيها لدى القوات اللبنانية التي كان لها فضل التجاوب مع طرح الرئيس سعد الحريري، والقيام بالمبادرة إلى إحداث ذلك التفاهم المسيحي الذي ساهم إلى حد بعيد في تحقيق تلك المصالحة والتي لولاها لما كنا حيث نحن الآن يرئسنا «رئيس قوي» متحالف مع حزب الله ومتآلف مع توجهات قوى الثامن من آذار وصولا إلى حدود التماهي الكامل مع سياساتها المنطلقة أصلا وفصلا من طهران. والغريب أن معالي «الوزير الديبلوماسي» يتهم كل من يعارضه وكل من يخالفه الرأي ويعترض على تصرفات وزارته «الشاردة» كما سماها الوزير المشنوق، «مستتبعا» لقوى خارجية، متناسيا موقعه وتوجهاته القائمة والغارقة في حواميل الاستتباع. إن «الموقع الديبلوماسي» المتمثل بوزارة الخارجية يحتاج إلى إطفائي مواكب لحركة الوزارة الشاردة يطفئ اللهب في الداخل والخارج ويغنينا عن سياسة نبش القبور والمطالبة باستعادة عِظام الشهداء، ويعيد لبنان إلى مسيرة الإنقاذ والخلاص من كل المطبات والمزالق التي تحيط به من كل جانب، ولعل من أخطر ما يجابهه لبنان في هذه المرحلة الحالكة من تاريخه، تلك المطبات المتكاثرة في موقع الوزارة الشاردة.