IMLebanon

الضاحية… لم يفت الأوان

في الإنهيارات الكبيرة لا تجدي المعالجات الصغيرة. الإنهيار الكبير هو الحدّ الفاصل بين ما كان وما سيكون. بين واقع بلغ الإهتراء فيه حداً لا ينفع معه ترميم، وبين هوية جديدة تحدّد ملامحها المستقبلية توازنات شديدة التعقيد.

ما يجري في الضاحية الجنوبية لبيروت هو انهيار كبير. بالمفهوم العام، الوطن كله في حالة انهيار. فهو ليس وطناً بالمفهوم المدني، ولا يشذّ عن واقعه العربي بشكل عام، ولا عن كونه بؤرة بائسة من بؤر العالم الثالث الموبوء بالفقر والفساد والجهل المفروض وحيرة الإنتماء. ولكن لماذا الضاحية بالذات؟

مباشرة، ومن دون مقدمات، لأنّ الضاحية تمثّل في الوعي العام هوية مشروع ورأس حربة في التاريخ الحديث للكيان، وبها التصقت مفاهيم مثل التحرّر من الحرمان وتحرير الأرض ومقاومة العدو، ولأنّها الرافد الأساسي لساحات الصراع بالمقاتلين والمضحّين. هكذا هي صورة الضاحية النمطية. وبغضّ النظر عن صحة هذه الرؤية، فإنّ المشهديّة السائدة اليوم، لو تجاوزنا الشعارات التي تغطي جدرانها وتضجّ بها أزقتها والخطاب العام الذي يصدح من عشرات أو مئات مراكز البث الديني الثوري والوعظ الأخلاقي اليومي، فإنّ الحقيقة الصارخة تشي بأنّ الواقع مغاير تماماً لنمطية الصورة. فهي ــــ أي الضاحية ــــ لا تخرج عن كونها كتلة إسمنتية رمادية باهتة تضجّ بكتلة لحم كبيرة تتلوّى في صراع وجودي يومي، وفي ظروف خدماتية وإجتماعية بائسة. البؤس لا يأتي بالفضيلة، بل هو يحمل ألواناً من الرذيلة. وهذا ليس تنظيراً ماركسياً يتماهى مع تشريح كارل ماركس ذاته لأحياء لندن الفقيرة في القرن الثامن العاشر، بل هي مقولة تدخل في صلب الثقافة الجمعية على لسان علي بن أبي طالب: حيثما ارتحل الفقر قال له الجهل خذني معك.

في المرويّات التاريخية أنّ هنيبعل، القائد العظيم، هاجم روما في عقر دارها. لكن في غيابه كانت روما قد أحرقت عاصمته قرطاج حين كان جيشه يتجمّد في صقيع صباحات جبال الألب القاسية. قرطاج كانت في حاجة لمن يحميها في غياب هنيبعل وانشغاله بالمجد البعيد .الولايات المتحدة الأميركية هي روما العصر ونظامها المصرفي هو القيصر. تتهاوى الضاحية، ومن المكابرة القول إنها لا تتهاوى. هي تنهار في متاهات زحمة الأجساد التي تنغل في المكان بحثاً عن خبز نظيف، وحين لا تجده نظيفاً فهي ستجده حتى لو لم يكن نظيفاً. الأفواه الجائعة لا يعنيها كيف تجد ما يسدّ رمقها. مرة أخرى يخرج عليّ في كيان العقل الكليّ الذي يتجاوز كل العقول الجزئية: الجوع كافر. الجوع هو أب لكل الموبقات، والرأسمالية المتوحشة هي الحضن والأم الحنون لكل رذيلة. يطبق رأس المال المتسلّط على الكون كله. إله إسرائيل الذي «تزمّن» باللسان الماركسي يشدّ الحصار. يستبسل النظام المصرفي الأميركي في خنق كلّ ما يمكن أن يكون مشروعاً. البورجوازيات الشيعية الصغيرة والكبيرة تحاول أن تنأى بنفسها: «قلوبنا معك وسيوفنا عليك». الفقراء ليس لهم إلاّ أنشودة الدم والتضحية، لكن أيضاً في مكان آخر من هذا المكان الحزين، وعلى هامش الشعار، هناك بؤر تتوسّع وتنشر مفاهيم جديدة. يقول أصحاب نظرية المؤامرة: إنها الحرب الناعمة التي يجب مواجهتها بمزيد من «التثقيف» والمواعظ. معضلة الحرب الناعمة أنّه لا يمكن مواجهتها بالعسكرة. هناك «لاس فافيلاس» برازيلية تنمو كفطريات على أطراف الضاحية، قوامها عصابات مسلحة وسوق دعارة ومخدّرات، وهي تنتشر كخلايا سرطانية. المواجهة الأمنية كفيلة بأن تحوّل منحى الصراع في الوعي الجمعي عن القضايا «الإستراتيجية» إلى لعبة «بوليس وحرامية»، وهي لعبة يتقنها تماماً أولاد الأزقة.

يرى «الخبثاء» أنّه في وطن يقوم على توازانات مذهبية وطائفية هشّة، لا يمكن لدولة مركزية أن تمارس سيادتها. هي أصلاً لا تمتلك حق السيادة طالما أنّ الجمهور يستحضر مثاله من خارج جغرافية الدولة ذاتها. وفي نظرة «خبيثة» أخرى أنّ الضاحية ليست يتيمة في مصيرها. هي تزداد شبهاً بالبصرة والعمارة والحلّة، وهذا ليس قدراً عبثياً، بل نتيجة حتمية لتماه مذهبي وممارساتي واحد. هذا يعيدنا إلى مربّع الكيانات المذهبية الناشئة والجدل حول مدى قابليتها للصيرورة والحياة، فهي مستقبل المنطقة بعد اندثار القومية العربية وتلاشي أوهام الصحوة والوحدة الإسلامية واستئثار الرأسماليات العالمية بإعادة ترتيب الحظائر ورسم معالمها.

إنّ واقعاً جديداً ينشأ لا يشبه حلم موسى الصدر الموعود. فلا جدوى من إنارة الشوارع ونثر «البوالين» فوق أكوام النفايات وتوزيع الحلوى على المارة. هي ممارسات جمالية تصلح لعالم استكمل شروط الحياة. أمّا في هذا المكان، فنحن أحوج ما نكون إلى «شيء» يشبه عمدة برلين ما بعد الحرب العالمية الثانية وهو يخطب في نساء الألمان داعيا إياهن، بعد فقدان الرجال، إلى رفع الحطام وإقامة البنيان. نحن أحوج ما نكون إلى تجنيد كل الطاقات العملية للمواجهة مع عالم من ذئاب لا يعنيه إلاّ كوننا أرقاماً أو أصفاراً على شاشات البورصات العالمية، وهو يريد لهويتنا لوناً يتناسب وحاجات السوق. الغرب، بوضوح شديد، عاهر لا تخرج منه تجاهنا أي من الأشياء الجميلة، حتى التي نظنها في غمرة أوهامنا جميلة. حين سقط صدام بالضربة الأميركية القاضية بدا لنا أن كوّة مشرقة ونافذة على الضوء قد ظهرت، فإذا بواقع ليس أقلّ مرارة مع فساد الواقع الجديد. هي الحقيقة التي لا يمكن إلاّ الولوج عبرها. كلّ مدينة ليست عادلة وآمنة لا تنتمي لعلي. هذا المشهد المتحوّل في بيوتنا لا يشبه علي. هو يشبه أكثر نوري المالكي.