IMLebanon

عذاب الأوطان

 

كان عليّ أن أتحدث أولا، عن البلاد المعذّبة، لا يهم كثيرا، أن تكون بلادي، أم بلاد غيري، ما يهم، هو معنى عذاب الأوطان، كيف يتم تدميرها من الداخل أولا، ثم تستكمل الدورة عليها من الخارج، فتحال إلى بلاد مدروسة بالكامل، يسقط الشعب مثل حقل من القمح، أغمار سنابل، تحت رحى الحرب الداخلية، ثم يعود فيسقط مرة أخرى تحت رحى الحرب الخارجية، فتطحن أغمار السنبل، تدرس جيدا، ويفرز بعدها الحب عن التبن، يعبأ الحب في أكياس، ويحمل التبن في الخيش، وينادى على الباعة، وعلى من يشتري، وعلى من يضارب في السوق.

هذه هي الحال في بلادنا، النماذج جاهزة للعيان، في لبنان وسوريا وفلسطين واليمن وليبيا والسودان. أمر محزن للغاية، أن تجد الشعب، في هذه البلدان جميعا، يحني رقابه، كما أغمار السنبل، لرحى الحرب، تفتك به، تدرسه درسا، تمعسه معسا، ثم تأتي الأذرع القوية فتذريه في الهواء، فيصير كل شيء للبيع أكداسا أكداسا: حبا وتبنا.

 

يقف الكتاب والشعراء على هذه المشاهد المؤلمة في بلدانهم، يدبّجون المقالات التي تنعي البلاد. تراهم يطيلون البكائيات في الصحف وعلى الشاشات، وفي الإذاعات، وعلى المنابر، صباح مساء، ولا يجدون من يحزن لحزنهم، ولا من يتعذب لعذابهم. يقطعون وقتهم، كما قطعة من عذاب، وتمضي الشهور، وتمضي الدهور، وتطفأ آخر لمبة في البلاد، ولا أحد يسأل عن عمق المأساة التي تفجّر الأحزان وتسيل مدامع العذاب، من أعين الآباء والأمهات.

في لبنان، مضى علينا حين من الدهر بلا رئيس للجمهورية، أطفأت آخر لمبة في القصر الجمهوري، وآخر لمبة في البلاد معا، وأطبقت علينا الظلمة وأطبق علينا الظلام، من جميع النواحي، وسلب الشعب ماله، وتقطعت السبل به، فما عاد له إلّا أن يندب حظه على أبواب العالم. ثم لم يلبث أن دار العدو على الشعب يمطره بالقذائف، ويحرق أرضه، ويدمر قراه أمام عينيه، دون أن يكون أمامه إلّا البكاء، على المنازل التي كانت تزيّن الحدود، وعلى الكروم والبساتين، التي كانت تدرّ خيراتها، وعلى قطعان الماشية، التي خسرت مراعيها. فلم يعد للأهل سوى الشعر المعذّب، يرققون به جوانب حياتهم، ويجدون فيه، ما يقوّيهم على الصمود.

الشعر المعذب، صار ديدن الكتّاب والشعراء، صار ملاذهم الأخير، يطلبونه في جميع البلاد المعذبة، لا يجدون بديلا عنه، لتقوية إرادتهم في البقاء على قيد الحياة. إنظروا معي، ما يجري لغزة، كيف تهدم الحياة فيها، كيف تدمر الشوارع والساحات، كيف يفتك الجوع بالناس، وكيف تكتشف كل يوم، المدافن الجماعية، ولا ييأس الناس، يظلون في أرضهم مثل الصخور، يرققون مهجهم بالشعر، ويصمدون أمام أقسى حرب شنّت عليهم في تاريخ البلاد.

جبهة الشعر المعذب، وحّدت الناس، في جميع البلدان. صار اللبناني أخا للسوري أيضا  يشعر بالعذاب معه، ويشاطره مأساته في بلاده الممزقة إربا إربا. ينادي عليه، وهو يقطع وقته في النظر إلى خارطة الوقت، وخارطة الجغرافيا، وخارطة الدول التي تحتله، وخارطة الإرهاب الذي يعصف به، ويجلب عليه المصائب كلها.  ينظر إلى شعبه المشتت في مخيمات النزوح السوري داخل لبنان، ويتعذب لعذابه، وهو يرى أحواله البائسة في الصيف كما في الشتاء، بعدما كان، عزيز الجانب منذ عقدين من الزمان.

جبهة الشعر المعذب، خيمة اللبنانيين والسوريين هذه الأيام. ينضوون تحتها بالقهر، وينفذ في الشعبين جدول الضرب، دون أن يكون لهم منجاة، مما وقع عليهم من مصائب وآلام.

مسكين شعب هذه البلدان، من لبنان إلى السودان، لم يعد بين يديه، إلّا التداوي بالشعر المعذب، إنه شعر الجروح التي تقرّحت بطول السنين، وما نفع معها الطب، ولا وجدوا لها الطبيب!