في مواجهة الإنقلاب على الدولة والعبث بالحكم والدستور
فضح قرار رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في 23 آذار وقف العمل بالتوقيت الصيفي الكثير من الخفايا التي كانت كامنة في النفوس. القرار الذي كاد يفجّر البلد نتيجة سوء التقدير والإدارة، كشف الطريقة التي تدار فيها الأمور وأعاد الإعتبار إلى المشكلة الرئيسية الناتجة عن تعطيل الدولة نتيجة تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية يكون الرأس الذي يشرف على هذه الإدارة بحكمته وبقوة الدستور والقانون، لا بقوة الصفقات والمحسوبيات والتسويات.
كان بإمكان الرئيس ميقاتي تلبية مطلب إراحة الصائمين في شهر رمضان المبارك من خلال قرار إداري بسيط بتعديل دوامات العمل خلال هذا الشهر، لتبدأ الساعة التاسعة مثلاً بدل الثامنة، على رغم أنّ معظم إدارات الدولة الرسمية لا تعمل إلا أياماً محدودة خلال الأسبوع، وعلى رغم أنّ المدارس الرسمية لا يُعرف متى تعطِّل ومتى تفتح في ظل الإضرابات المفتوحة والمستمرة أو المتقطعة للأساتذة. قد يكون ميقاتي ارتكب خطأ استراتيجياً في هذا القرار الذي اتخذه على المستوى الشخصي ستكون له انعكاساته السلبية على حضوره السياسي، ولكنه بطبيعة الحال كاد يفجّر كل الأحقاد الطائفية في البلد، وكاد يفجّر البلد. حتى أنّ العودة عن هذا القرار لن تمحو النتائج التي ترتّبت عليه. ذلك أنّ كمية المفاعيل السلبية القاتلة لن يكون من السهل تجاوزها.
القرار وساعة التوقيت
لم يكن البحث بهذا القرار ابن ساعته. سبق وطُرح الموضوع على النقاش قبل هذا العام ولم يؤخذ به. وسبق أن عرضه رئيس مجلس النواب نبيه برّي على ميقاتي قبل نحو شهر وصُرف النظر عنه إدراكاً للنتائج السلبية التي ستترتّب عليه عملياً وليس طائفياً. فهي ليست المرة الأولى التي يصادف فيها شهر رمضان مع التوقيت الصيفي ولن تكون الأخيرة. فلماذا كان برّي مصراً على اتخاذ هذا القرار؟ ولماذا استدعى الأمر عقد هذا الإجتماع المصوّر والمسجّل بالصوت والصورة بينه وبين ميقاتي؟ ولماذا سرِّب هذا الحوار الذي يطلب فيه برّي منه اعتماد تأجيل التوقيت؟ ولماذا قبِل ميقاتي؟ هل استُدرج ميقاتي إلى كمين محضّر سلفاً؟ وهل من أعدّ هذا الكمين له كان يريد أن يوقعه في الفخ ويجعل منه ضحية؟ وهل كان يدرك عن سابق تصور وتصميم أنّ مثل هذا القرار ستكون له مثل هذه النتائج الكارثية؟
هذا القرار لم تكن نتائجه لتقتصر على الإنقسام الطائفي. وزير التربية القاضي عباس الحلبي مثلاً أعلن عن التزام وزارة التربية التوقيت الصيفي ودعا المدارس والمعاهد والجامعة اللبنانية إلى اعتماده. ولكنه بطبيعة الحال لم يكن بإمكانه فرضه. عندما ترفض إدارات رسمية وغير رسمية قراراً أصدره مدير عام رئاسة مجلس الوزراء لا يعود مشكلة أن ترفضه دوائر المستويات الدنيا. ولذلك مثلاً رفض رئيس الجامعة اللبنانية الدكتور بسام بدران قرار الوزير. ولكن حتى رئيس الجامعة لم يكن باستطاعته فرض هذا القرار على الكليات التابعة لها في الفروع الثانية مثلاً.
تجربة دير مار شربل
لم يكن من المنتظر مثلا أن يهدّد أحد المؤيّدين لقرار بري – ميقاتي مدرسة دير مار شربل في الجية في حال فتحت أبوابها بحسب التوقيت الصيفي والتزمت قرار البطريركية المارونية. ولم يكن مفاجئاً أن يعتذر عن هذا التهديد بعد أقلّ من ساعة ليؤكّد على العيش المشترك في إقليم الخروب وعلى تاريخ العلاقة مع هذا الدير. ولم يقتصر التهديد على هذه الواقعة فقط بل تجاوزها إلى مناطق أخرى تلقّت فيها مدارس رهبانية ومسيحية تهديدات مماثلة. لقد كشفت الوقائع أنّ ما في النفوس أكبر مما يحكى عن التعايش بعبارات لا ترتقي إلى مستوى القناعة. ما حصل كان محاولة لإيقاظ فتنة ساد اعتقاد لفترة طويلة أنها طُوِيت وظهر ما يعاكسها في انتفاضة 14 آذار ثم في ثورة 17 تشرين.
منذ تأسيسه في العام 1963 مثل دير مار شربل في الجية واحة للعيش المشترك، كما كانت معظم أديار الرهبنة المارونية ومدارسها. وكان تلاميذه من كل المناطق والطوائف. وكان فيه قسم داخلي لطلاب يأتون أيضاً من كل الطوائف والمناطق. عندما حصل الهجوم على الجية والدامور في كانون الثاني 1976 بقي تسعة تلاميذ من الطوائف الإسلامية والدرزية في القسم الداخلي في الدير مع الرهبان والناظر الأستاذ بسام طربيه من تنورين. هو أيضاً اختار البقاء في الدير على رغم تلقيه نصائح بالمغادرة وارتبط مصيره بمصير التلاميذ.
بعد سقوط الجية والدامور لم يكن هناك خيار إلا انتقال الرهبان والتلاميذ التسعة والأستاذ إلى شاطئ السعديات للإنتقال مع الأهالي الآخرين إلى كسروان. ولكن بدل الصعود إلى المركب قرر الإستاذ العودة بالتلاميذ إلى دير مشموشة التابع أيضاً للرهبانية المارونية في جزين لإعادتهم إلى عائلاتهم. على رغم إدراكه للخطر الذي يتهدّد حياته مزق بطاقة هويته ووضع التلاميذ التسعة في سيارته الصغيرة واتجه بهم نحو جزين بعد محطة انتظار أولى في بلدة الدبية. ساعده في اجتياز الطريق والحواجز المسلّحة شخص مع سيارته، وأمّن له طريق الوصول إلى دير المخلص في جون ضابط من حركة فتح بعدما عرف المهمة التي يقوم بها. ومن هناك انتقل إلى دير سيدة مشموشة وتوجّه إلى مركز تابع للجيش اللبناني تمكن من التواصل مع ضابط في قيادة الجيش زوّده بأرقام هواتف أهالي التلاميذ فتمّ الإتصال بهم وحضروا إلى الدير واستلموا أولادهم. قرار برّي-ميقاتي كاد يكسر هذه الصورة الحية من صور الإتجاه المعاكس في الحرب.
الضغط الذي ولّد الإنفجار
أتاح هذا القرار إطلاق الغرائز الطائفية بكلّ سيئاتها وسمومها وسمح باستغلاله لتسعير موجة ردود الفعل واستدراج أخرى معاكسة لها. مع أنّ الإنقسام حول التوقيت لم يكن أساسه طائفياً أو مذهبياً ويرتبط بقواعد التوقيت العالمي وطريقة العمل وتشابك الروزنامات الدولية نتيجة شبكات الإنترنت والهواتف الخلوية، إلا أنه تحوّل كذلك.
من حيث الشكل لم يكن من الجائز أن يختصر الرئيسان برّي وميقاتي القرار في جلسة دردشة كشفت كل عورات طريقة إدارة الدولة وتجاوز مسألة التمثيل المسيحي المغيّب عمداً نتيجة تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية. هذا الأمر كان يمكن أن يمرّ بأضرار أقل لو لم يكن مكمّلاً لتراكمات سابقة اعتبرت تعدّيات على التمثيل المسيحي في السلطة والقرار. ومنها مثلاً:
– الإعتداء على أملاك الكنيسة المارونية وعلى مشاعات البلدات المسيحية من أفقا إلى لاسا وتنورين والعاقورة.
– تفجير مرفأ بيروت بكل الأضرار التي لحقت بشكل كبير بمنطقة تعتبر في أكثريتها مسيحية.
– منع التحقيق في تفجير المرفأ والتهديد بقبع المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار.
– إعلان الرئيس ميقاتي في مقابلة تلفزيونية أنّ عدد المسيحيين في لبنان بات نحو 19 في المئة من عدد اللبنانيين.
– تفاقم أزمة النازحين السوريين في لبنان وتهديدها بتغيير ديمغرافي كبير على حساب الوجود المسيحي فيه.
– تكرار تعمّد تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية في العام 2007 بعد انتهاء ولاية الرئيس أميل لحود، وفي العام 2014 بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، وفي العام 2022 بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون.
– إدارة الدولة بطريقة تتجاوز أي حضور مسيحي في القرار واعتبار أنّ غياب رئيس الجمهورية مسألة عادية كغياب وظيفة مأمور أحراج، واعتبار أنّ هذا الموقع غير مؤثّر ويمكن أن يكون غير موجود.
– تعيير المسيحيين دائماً بمسألة العدد على خلفية «وقّفنا العدّ». والتهديد بالأرقام وبنسبة قياس المشاركة في السلطة والقرار بعيداً عن الشراكة الحقيقية في الحكم.
– اعتبار أّن المسيحيين رقم ساقط في المعادلة يمكن تجاوزهم من دون أن يعترضوا بسبب خلافاتهم السياسية وتحميلهم حتى مسؤولية عدم انتخاب رئيس للجمهورية لأنّهم لا يتفقون على رئيس. وهي مسألة مغايرة للواقع وإن كانت أحد الأسباب التي يتم التحجّج بها لتغطية الأسباب الحقيقية التي تدخل في صلب ضرب المعادلة اللبنانية.
– الخطاب المتشدد لعدد من القيادات الشيعية في «حزب الله» وحركة أمل وصولاً إلى المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان الذي لا يتوانى عن تهديد المسيحيين بتغيير طبيعة الكيان واتهامهم بأنّهم يريدون التقسيم ويطرحون الفدرالية. واعتبار أنّ لبنان لم يكن لولا مقاومة حزب الله. وآخر ما سجل على هذا الصعيد دعوة قبلان المسيحيين ومعهم بكركي إلى بيت الطاعة.
أقل من انتفاضة وأكثر من اعتراض
لقد كشفت وقائع يومي الغضب أنّ هناك ما يشبه الإنتفاضة المسيحية على طريقة إدارة البلد. وانكشف أيضاً أنّ رأياً عاماً متصاعداً بات يرفض استمرار الإنحناء أمام التهديدات التي تتعلّق بالكيان اللبناني وبالوجود المسيحي فيه. وأنّ هذا الرأي العام لم يعد يخجل بطروحات تعبّر عن هواجسه وعن تمسّكه بحريته في طريقة العيش وبتاريخه وبحاضره وبمستقبله في هذا الوطن الذي يعتبر أنّه كان له الدور الرئيسي في تكوينه. على رغم أنّ البعض عمل على ركوب موجة الإعتراض بطريقة شعبوية لتغذية هذه التوجهات كان موقف «القوات اللبنانية» ورئيسها سمير جعجع الأكثر عقلانية في طريقة التعاطي مع الأزمة المستجدة نتيجة قراءة خلفيات الذين تسبّبوا بها والذين استغلّوها بطريقة سيئة. وبرز موقف القوات من خلال طلب معالجة الخطأ بالعودة عنه باعتماد المخارج الدستورية والقانونية في رسائل لم يتلقّفها رئيس الحكومة الذي وقع أسيرا بيد من ورّطه في هذه التجربة المرّة.
هذه التجربة أصابت ايضاً رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية الذي ابتعد عن قرار بكركي، الأمر الذي جعل مسألة الإستمرار في ترشيحه أمراً صعباً للغاية، لأنه سيؤدّي حكماً إلى ردود فعل مسيحية تتجاوز مسألة التوقيت من أجل اختيار توقيت آخر لإعلان الساعة الصفر لانتفاضة تعيد التوازن إلى القرار السياسي في إدارة الدولة، على قاعدة أن لا أحد يمكنه أن يفرض عليهم طريقة عيشهم ويمنع عنهم انتخاب رئيس ويفرض عليهم الرئيس الذي يريده.
في النتيجة قد يكون ميقاتي أنهى الحاجة إليه في موقع رئاسة الحكومة بهذه الطريقة لأن هكذا قرار لن تكون له ساعة للقيامة بعد المعركة التي ضيّع فيها الوقت بحيث لا تنفع معها ساعة ندم.