استطاع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الأسبوع المُنصرم، ولو في اللحظات الأخيرة وبعد معاندةٍ قصيرة من قبله قبل العودة عن قراره، تدارك «الانفجار التوقيتي» الذي كاد أن يكون الشرارة التي تجرّ البلاد والعباد الى مواجهاتٍ طائفية لن يستطيع طرفا «الصراع التوقيتي»، أي المتمسّكان «بالشتوي» والمنتقلين إلى «الصيفي» ضبط الأوضاع الأهلية، فالقرار التوقيتي سحب النقاشات من الملفّات الاقتصادية والسياسية والمطلبية إلى أجواء متصاعدة من التحدّيات والعصبيات العمياء. وان كان لأبطال فكرة القرار دوافع بعيدة الأمد كامنة في بواطنهم الفئوية الهادفة لتغيير وجه لبنان الثقافي باعتماد خطواتٍ مُتعدّدة وصغيرة ومتدرّجة ومشابهة، فالإخراج تعمّد الاستفزاز والعشوائية وقصر النظر المُشابه لقرارات العديد من السلاطين الذين حكموا شعوبهم بفظاظة وظلامة واستخفاف، ودفعوا بها إلى الانتفاضات الدموية من أجل التخلّص من أوضاعهم المأسوية.
وهذا الواقع هو الذي دفع الكثير من القادة المعارضين للسلطة لتناول الأمر «التوقيتي» من زاوية الوجودية الطائفية وليس الوجودية العلمية. وبالرغم من محاولات بعض الأطراف، وخاصةً «القوات اللبنانية»، لإبقاء النقاش في المجال التقني المرتبط بالتوقيت العالمي، فقد طغت أجواء التشنّج «العصباني» على المشاحنات، حيث فضحت نيّات طارحي فكرة القرار، وكشفت في الوقت ذاته حماسة المعارضين للمواجهة ولقلب الأوضاع.
إنّ الانفجار «التوقيتي»، وإن كان في ظاهره سطحياً وغرائزياً، لكنّه حمل في طياته الكثير من الدلائل العميقة الخطيرة والعدائية المكتنزة داخل نفوس شعب وطن الأرز، ولا تتحمّل مسؤوليتها الشراكة الوطنية والعيش المشترك والنظام الطائفي، بل محاولات كسرها، ففي المراحل التي تمّ خلالها احترام هذه الركائز، تأمّنت أفضل ظروف العمل والتطوّر والاستثمارات، فالعمل المُفجّر لهذه التركيبة يبدو واضحاً بأنّه نتيجة لمحاولات استبدال الشراكة الوطنية بالتبعية الاقليمية. إنّ النظرة الاستخفافية لاصحاب فكرة القرار «التوقيتي» تدلّ بوضوح على شعور الفائض بالقوة الذي ينغل في عقول أصحابه ونفوسهم، ويُشكّل العامل الاساسي الذي يدفعهم لتبنّي مفهوم الغلبة، والدافع الأساسي للمعارضين لفقدانهم الثقة بالعودة للشراكة، والتي ظهرت في ردود الفعل الشاملة، الشعبية والسياسية والكنسية، وفي التعاضد العفوي بين المتنازعين والمتنافسين.
قد تختلف الآراء بين افرقاء الوطن الواحد وتتباين الطروحات والمقاربات بين الأحزاب الوطنية وتتنوّع النظريات الاقتصادية والادارية بين مكوّنات الوطن، وقد تكون حول مسائل جوهرية وقضائية، كما يحدث حالياً في اسرائيل، واجتماعية ومطلبية كما يحدث في فرنسا، أو سياسية كما يحدث في الولايات المتّحدة، ونظامية وتكوينية كما يحدث في ايران، ولكن أن تنفجر بسبب مسألة سطحية بالظاهر وعميقة بالمعاني، فذلك خاصة لبنانية تدل بوضوح على الغلبة الواضحة لذهنية التبعية للمشاريع الخارجية على مفهوم الشراكة، العصب الأساسي لبقاء الوطن.
إنّ نقطة ضعف لبنان لا تتمثّل بتنوّع ثقافاته، كما يحلو للبعض من الاوفر ليبرالية «over liberalism» تصويره، وإنّ تهديد الاستقرار ليس ناتجاً عن الاختلافات في الآراء والمشارب، بل إنّ الخطورة على لبنان نابعة من المشروع التهديمي المترتّب عن التزام بعض الاطراف السياسية بمرجعيات اقليمية والتخلّي عن القاعدة الذهبية التي حمت لبنان من الغزوات، وهي القناعة بالتوازن القاضي بالتزام الحياد وعدم اعطاء لبنان هوية ايديولوجية.
قد تنفجر الاختلافات بين تكاوين وطن الأرز نتيجة للعصبيات العمياء وللشعور بفائض القوة «المتحوّل» والخشية على الوجود والبقاء «الثابت» والشعور بالاحباط «المتنقّل»، ولكن، وللأسف، في كثير من الاوقات تندلع الاضطرابات بين فئات الوطن نتيجةً لاجراء اداري غبي ولقصر نظر مدوٍّ، ممّا يأخذ البلاد إلى تشنّجات متبادلة وإلى أحقاد متعاظمة، وتتردّد في مجالس الدولة بمواقف عدائية، ريثما تعود الأمور إلى الهدوء بعد المعركة، ويكتشف حينها أصحاب عقول «جنون العظمة» بأنّهم ليسوا الا أدواتٍ لحسابات خارجية، وما فائض القوّة الذي يُخاطبون الآخرين من خلاله الا وهم، وتكتشف في الوقت ذاته الفئة التي تخشى على وجودها أنّ النضال المُدعّم بالارادة والتاريخ والبطولات وقوة القرار هو الثابت الوحيد.
التوقيت عاد واحداً، والانفجارات ما زالت بالانتظار، ريثما يقتنع مُسبّبوها بأنّهم لن يستطيعوا فرض قناعاتهم على الآخرين مهما عظمت قوّتهم واشتدّت محاولاتهم وتوزّعت اتصالاتهم داخلياً وخارجياً، وما عليهم الا أن يصلوا سريعاً الى النتيجة التي وصل اليها المحاولون من قبلهم «توقيت لبنان واحد ومُشترك وانفجارات لبنان مُدمّرة للجميع».