قال رئيس الهيئة المشتركة للأركان في أميركا أخيراً: “أنا أؤمن بأن روسيا تشكِّل تهديداً وجودياً لبلادي، وبأن علينا البدء في إعطاء حكومة أوكرانيا، حيث الصراع العسكري محتدم مع مواطنيها الذين من أصل روسي ومع روسيا الداعمة لهم، أسلحة فتّاكة وقاتلة”. والمتابعون الأميركيون من واشنطن للصراع المذكور يؤكدون أن “عسكرهم” يدرِّب القوات الحكومية الأوكرانية، ومن الطبيعي أن تزوِّدهم أميركا بهذه الأسلحة قريباً. ويلفتون إلى أن رئيس هيئة الأركان المشتركة ما كان ليقول ما قاله لو لم تكن لديه موافقة سابقة من البيت الأبيض. وربما يكشف ذلك تطوراً محتملاً في الاستراتيجيا الأميركية. لكنهم على رغم ذلك لا يعتقدون أن روسيا تهديد وجودي لبلادهم. علماً أنها تستعد لمواجهة هذا التهديد في حال صار وجودياً وهي لا تترك للمفاجآت مجالاً. ولهذا السبب أقامت نوعاً من التحالف، بعد اتجاهها نحو المحيط الهادي، يبدأ من الهند وينتهي في اليابان. وهو في جزء منه يواجه التهديد الروسي، وفي جزء آخر التهديد الصيني على رغم عدم “وجودية” أي منهما الآن. وللسبب نفسه بدأت عملية إعادة تموضع لقواتها العسكرية ولقواعدها الجوية في دول حلف شمال الأطلسي، وذلك سيستمر. وهو يشكِّل رسالة واضحة إلى الرئيس فلاديمير بوتين لكي يعرف أن الرئيس المقبل للولايات المتحدة، أياً يكن انتماؤه، سيكون متشدداً أكثر من رئيسها الحالي. ويضيف المتابعون، أن الأميركيين تعلّموا درساً موجعاً من تورُّطهم العسكري في أفغانستان والعراق، ولذلك لن يقوموا باحتلالات عسكرية. وبدلاً منها سيلجأون إلى التكنولوجيا التي يمتلكون للقيام بالمهمات. ولهذا السبب بدأت عملية تقليص عديد الجيش الأميركي. لكن إذا صار التهديد غير الوجودي حالياً وجودياً فستكون هناك “دعوة إلى حمل السلاح” من الرئيس المقبل وزيادة ضخمة جداً لميزانية الدفاع.
طبعاً لا يعني ذلك أن العلاقة بين موسكو وواشنطن ستتردّى أو ستنقطع. فالدول العظمى والكبرى لا تتصرّف كذلك. لكنها تبقى على اتصال، وتحاول بسبب مصالحها العمل معاً لإيجاد حلول لمشكلات صعبة هي جزء منها وقد تصبح مهددة لها. والدليل العلاقة المنتظمة بين وزيري خارجية أميركا وروسيا وبعض الود والثقة المتبادلة، وتعاونهما لإيجاد حلول لمشكلات الشرق الأوسط وحروبه المتعددة. ذلك أن المصالح الاستراتيجية للبلدين تقضي بعدم قبول سيطرة دولة واحدة وإن كبرى على نفط الخليج. وتقضي أيضاً بعدم تغيير الحدود الحالية للدول الخليجية. وقد دفّع الروس والأميركيون الرئيس العراقي صدام حسين ثمن مخالفته هذه القاعدة. وتقضي ثالثاً بعدم قبول تحوُّل إيران دولة إقليمية سوبر عظمى وحيدة في المنطقة. أما تركيا وهي دولة كبرى فتبقى قابلة للاحتواء بواسطة حلف شمال الأطلسي وأوروبا وأميركا، وخصوصاً إذا كبرت طموحاتها التي يحلم بترجمتها واقعاً ملموساً رئيسها رجب طيب أردوغان. وهي الآن دولة مفيدة على رغم المآخذ عليها.
ماذا عن مصر؟
ليست مصر الآن ساحة صراع بين موسكو وواشنطن لأسباب كثيرة، على رغم أن جهات عدة حاولت دفع رئيسها عبد الفتاح السيسي إلى التوجُّه إلى الأولى، بعد اعتراض الثانية على ما اعتبرته انقلاباً على الرئيس الإخواني محمد مرسي، ولاحقاً على “اضطهاده” لـ”الإخوان” وعلى مس حقوق الإنسان. لذلك تبقى علاقتها مع أميركا جيدة وهي تحسّنت أخيراً وعادت إلى ما كانت عليه بنسبة 95 في المئة. والدافع إلى ذلك اقتناع واشنطن بأن لا بديل من السيسي حالياً، وبأن مصلحتها تقتضي طمأنة السعودية وعدم وقوع مصر تحت سيطرة “الإخوان” والإسلاميين المتشددين. وأميركا على ثقة أن علاقة مصر وتركيا ستتحسن عندما يضعف كثيراً “إخوان” مصر أو عندما يصبحون من الماضي. والسبب أن مصلحة تركيا تقضي بعدم اكتفائها بحليف واحد هو السعودية.
ملاحظة: لن أردّ على ردّ الرئيس إميل لحود. أقول فقط “الشمس طالعة والناس قاشعة”، والتاريخ إذا كتب بصدق وحدُه يُنصف. وأقول أيضاً: “أنصفني حلفاء له (سابقاً) ولا يزالون في خطه السياسي وعارفون كثيراً مشيدين بموضوعيتي على رغم عدم اكتمال الانصاف”.
ملاحظة: العماد ميشال عون عُيِّن رئيساً لحكومة انتقالية في 23 أيلول 1989 وليس في 23 كانون الأول، كما ورد خطأ في بداية “الموقف” يوم أمس.