قد تكون نقطة تحوّل على صعيد الطائفة السنية في لبنان ومعها الحريرية السياسية التي وُجهت لها ضربة في الصميم بعد نحو ثلاثين عاماً على انطلاقتها في عهد المؤسس الراحل رفيق الحريري، تلك التي خرج بها الرجل من تعليق لعمله السياسي الذي يحمل معاني بالغة الأهمية للطائفة في تاريخها الحديث.
المرحلة شبيهة بالتحول البليغ الذي شهدته الطائفة مع حلول مؤسس «تيار المستقبل» رفيق الحريري عليها بداية التسعينيات من القرن الماضي، مالئاً الفراغ السني في لبنان بعد فترة من الضياع وغياب الزعامات والاحزاب الوازنة.
جاء ذلك بعد تدهور في حال الطائفة بدأ قبلها بسنوات عشر في العام 1982 الذي كتب بداية التحول نحو ضمور سني تحول انكساراً مع هزيمة التنظيمات السنية العسكرية الذي تبع خروج الداعم الفلسطيني وإزاحة بعض الزعامات السنية الى الخارج واغتيال رموز سنية سياسية ودينية.. وضمور من تبقى..
حمل العام 1982 الذي شهد الهزيمة العسكرية للفلسطينيين وخروجهم من لبنان، بداية هذا التحول التراجعي للسنة في لبنان بعد عصر ذهبي طويل. فقبل ذلك استند السنة الى زعامات تقليدية متجذرة في الأرض، وخاصة، في مرحلة الخمسينيات والستينيات حيث ساد النبض العروبي لا سيما مع زعامة جمال عبد الناصر التي حملت السنة الى القمة للمرة الأولى منذ تأسيس الكيان في العام 1920.
لكن الغياب المزلزل لعبد الناصر في العام 1970، لم يحمل غيابا موازياً للناصرية وللمشروع العربي وقوامه مقاومة الاحتلال الاسرائيلي الذي جذب الشرائح السنية المختلفة في البلد، من دون ان يعني هذا مذهبية في ذلك المشروع وان استند إليه المسلمون السنة في محاولة لتغيير النظام اللبناني عبر مشروع عسكري مغامر لم يعيه أحد في العام 1975 حين اندلعت بداية الحرب الأهلية التي استمرت حتى العام 1990.
والحال ان اتفاق الطائف رسم بغطاء سعودي أميركي وقوة النار السورية سمة المرحلة منذ العام 1989 ومن بعدها افتتاح عصر السلم الاهلي التي شكلت الحريرية لبّها الاقتصادي مع حلول رفيق الحريري رئيسا للحكومة بين العامين 1992 و1998، ثم بين العامين 2000 و2004، قبل أشهر من اغتيال الرجل الذي استعار منه الإبن قبل أيام قوله الشهير قبيل اغتياله بأشهر «أستودع الله هذا البلد الحبيب لبنان وشعبه الطيب..».
وعلى رغم حلول الإبن رئيسا للحكومة في مراحل متقطعة وتكريسه زعامة سنية كبرى منذ اغتيال الأب في العام 2005، وان لم يكن وحيدا، فإن تعاظما في المظلومية السنية سار في شكل مطرد وسط انكسارات في لبنان وفي المنطقة مع غياب للمرجعية اتخذ طابعه الأهم في الفترة الاخيرة مع القرار السعودي بالتخلي عن الحريري.
هي مرحلة تيه سني اليوم وشعور باليُتم مع غياب الحواضن الخارجية مثل الرياض وبغداد وحتى دمشق ماضياً، سيتعمق اليوم مع خروج الحريري من الحكم، خروج يعلم الرجل ان ما بعده لن يكون كما ما قبله، هذا اذا تمكن زعيم «تيار المستقبل» من الحفاظ على تياره والعودة يوما ما في ظل تخلي الجميع عنه ليحلّ يتيما هو الآخر من أية مرجعية خارجية باستثناء تعاطف مصري وإماراتي ومظلة فرنسية عاجزة..
طبعا لأخطاء الرجل في سياسته الداخلية وتدخلاته الخارجية فعلها في ما حلّ به، لكن في كل الاحوال فإن النتيجة تتمخض عن مرحلة سنية جديدة هشة يفتتحها العام 2022 للمرة الأولى منذ العام 1992.
وعلى رغم غموض المشهد السني الداخلي ومن سيتولى هذا الفراغ مع أسئلة تُطرح حول ما ستتمكن منه قوى التغيير ذات الحضور المتفاوت في المناطق السنية في الانتخابات المقبلة، إلا ان البعض يثير القلق من تيارات سلفية متطرفة قد تعود الى الحضور في المشهد اللبناني كما تحضر في المشهدين العراقي والسوري، ويقع على عاتق الساحة السنية المعروفة باعتدالها التاريخي مواجهته كما لفظته في الماضي باستثناء حالات غير ذات شأن لم تتمكن من الولوج الى الحال السني صاحب المزاج المدني والسلمي والذي يتخذ من حماية الطائف شعاراً لا يحيد عنه.
من هنا ستتسم المرحلة السنية في لبنان بالدقة وسط شعور عام في الطائفة بـ«التخلي» وازدواجية المشاعر حيال الرعاة الإقليميين والحسرة على عدم القدرة على الانتماء الى مشروع حاضن كما كان في الأزمان المصرية الناصرية والفلسطينية والسعودية، ما يولد شعورا بالعجز مع تنامي القوة الشيعية محليا وإقليميا من ناحية، وتكريس مرجعيات طائفية لدى المسيحيين والدروز وإن تعددت لكنها في النهاية تحمي ظهر الطائفة وتحفظ حقوقها في لعبة السلطة وتضمن سيلان دعمها الخارجي، من ناحية ثانية، في فترة دقيقة تُرسم ملامح خارطتها السياسية لمرحلة طويلة مقبلة.
على ان واجب السنة اليوم سيكون في إظهار وجههم المعتدل ودورهم الوحدوي الذي لطالما وسم هذه الطائفة لبنانياً وعربياً وإسلامياً، عبر حماية لبنانهم بوجه أي محاولات للتقسيم ظهر الكثير منها مؤخرا.