مذ علّق رئيس الحكومة السابق سعد الحريري مشاركته في الحياة السياسية، برزت أزمتا القيادة والدور في الطائفة السنية. وبدأت الصعوبات في مسيرته السياسية مع تردي علاقته بالمملكة العربية السعودية العام 2017 ثم استقالته إثر «ثورة 17تشرين».
بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري لم تسعف الإبن الدعائم التي أحيطت به لاستكماله دور والده، فكان ابتعاده عن الساحة السياسية هو الحل. غادر الحريري الى الإمارات بعدما تم تخييره بين العمل السياسي او التجاري كرجل أعمال. لم يكن مخيّراً من الأساس لكنه ارتأى التفرّغ لإدارة أعماله بعد الخسائر التي مني بها. خلافه مع الرياض أخرجه من الحياة السياسية خروجاً لن يكون عابراً أو موقتاً بل كان سبباً لتسطير نهاية حكايته مع السلطة ومع الزعامة السنية.
في غيابه وقعت الطائفة السنية في فراغ مريب. وظهر التضعضع جلياً في الانتخابات النيابية الأخيرة حيث تشظى نواب الطائفة. واذا سألنا اليوم من هي الكتلة السنية الوازنة يكون الجواب أن هناك كتلاً نيابية صغيرة متباعدة توزعت بين «بقايا المستقبل»، والوجوه الجديدة تحت غطاء المجتمع المدني، وآخرين يحاولون بلا جدوى ايجاد حيثية تمثيلية داخل الطائفة وعينهم على إرث الحريري السياسي.
منذ الإنتخابات النيابية حاولت مجموعات ملء الفراغ لإثبات قدرتها على القيادة. سعت السعودية للإمساك بالقرار ولم تأت النتيجة متوافقة مع المطلوب. ثم اشتغل الرئيس فؤاد السنيورة في الانتخابات النيابية وفشل، وبعد الانتخابات كانت النتيجة توزّع النواب السنة على جبهات خمس إن لم يكن أكثر. خرج الحريري ولن يعود الى الحياة السياسية. وكما في السياسة كذلك في الحياة العائلية حيث يواجه مشكلة تتصل بإرث العائلة وهناك دعاوى قضائية بينه وبين إخوته. أما إرثه السياسي أي «تيار المستقبل» فهو أيضاً كان ضحية وصار مصيره مجهولاً. منذ مغادرته لم يعد الحريري على تواصل مع أي من قيادات «المستقبل» أو ممن كانوا في موقع المسؤولية فيه ولا يجيب على رسائلهم الهاتفية. علاقته الوحيدة المستمرة هي مع أحمد هاشمية الذي ينسّق معه حول الخدمات الاجتماعية.
قبل أيام أقيم لهاشمية مأدبة غداء في البقاع حضرها نواب المنطقة الحاليون والسابقون. قبلها تمكن من إنشاء إتحاد جمعيات لتقديم خدمات إجتماعية. المقربون يقولون إنّ هاشمية يعمل على بلورة نصيحة الحريري بأنّ الوقت في لبنان هو للعمل الإنساني الإجتماعي وليس للسياسة. هاشمية ذاته نجح سابقاً في إقناع نازك الحريري ببيعه مؤسسات رفيق الحريري التنموية والتربوية لإدارتها بعدما منيت بخسائر فادحة نتيجة التوظيفات السياسية والمحسوبيات ما أدخله في حرب باردة مع عائلة السنيورة بوصفها تتحمل مسؤوليات في هذه المؤسسات.
الخلاف بين هاشمية والسنيورة لم يقتصر على ادارة المؤسسات التنموية والتربوية بل تعداها الى محاولة اثبات الوجود في غياب الحريري. واذا كان هاشمية يتصرف بعيداً عن غايات سياسية وبالإتفاق مع الحريري وفق ما يقول المقرّبون، فإن السنيورة يسعى منذ الانتخابات النيابية الى لملمة صفوف «المستقبل» وإثبات وجوده لملء الفراغ على الساحة السنية، لكنّ محاولاته تصطدم بفيتو في بيروت حيث النفوذ لهاشمية وكذلك في البقاع جزئياً وفي الشمال. ولكن وبغض النظر عن الخلافات داخل «المستقبل»، فإن الأزمة الكبرى في غياب الحريري هي أزمة الشراكة في السلطة التنفيذية. وغياب الشخصية السنية التي تحظى بتمثيل برلماني وازن وقادرة على اتخاذ القرار، ومن هي القوى القادرة على انتزاع اعتراف الدول العربية السنية وفي مقدمها السعودية ومصر وبمقدورها أن تفرض نفسها من خلال القيام بدورها السياسي من دون أن تكون عرضة للتشكيك. اذا كانت أزمة رئاسة الجمهورية هي الأولى فالأزمة الحقيقية هي مع الشريك السني وهوية من سيتولى رئاسة السلطة التنفيذية بعد انتخاب رئيس جديد وقد أطلقت السعودية الحرم السياسي على الطبقة الحالية بدءاً من الحريري ذاته.
وسط هذه المعمعة يتوزّع النواب السنة بين المقربين لـ»حزب الله» أو المعارضين له، وهم كلهم حذرون وقلقون بينما سعت دار الفتوى الى تجاوز دورها الديني للعب دور سياسي لعلها تكون جامعة، لكن جرت محاصرة حراكها وتشتت النواب كلّ في اصطفاف.
والأزمة الأكبر ستتمظهر في حال دخلت البلاد في فراغ رئاسي واستمرت حكومة تصريف الأعمال وحاول رئيسها نجيب ميقاتي أن يلعب دور الرئيس، اذ ستخاض ضده حرب شرسة سيتشظى «الطائف» بنتيجتها، وليس بعيداً أن تظهر حاجة ماسة الى من يدير حواراً سنياً داخلياً لوضع حد للتشرذم القائم خاصة وأنّ الكل يتعاطى مع السنة على أنهم في وضع لا يحسدون عليه… الركن الأساسي المكون للبلد يمر في أضعف الأدوار منذ أن شكل لبنان الحديث.