طرح البروز الأخير المسلح لـ«الجماعة الإسلامية» على الساحة الداخلية في بيروت والشمال العديد من الأسئلة ومعها المخاوف لدى كثيرين، من بينهم شرائح سنّية، تتعلق بالعراضات المسلّحة ثم بما سيستتبعها لناحية تمدّد الحركة وأهدافه ونتائجه.
فالساحة السنّية الفاقدة للمرجعية بعد الخروج الحريريّ منها، باتت برؤوس عديدة متساوية القوى تقريبا لكن صلبة على الإختراق الجديّ ومنها ورثة «تيار المستقبل»، علماً أنه بعد تاريخ 17 تشرين الأول 2019، ظهرت معارضة مدنية كبرى لمنظومة السلطة من دون أن تتمظهر في المجلس النيابي نتيجة تجذّر السلطة ووجود قانون إنتخابات لصالح تلك السلطة وضعته بنفسها ولأسباب أخرى يتعلق الكثير منها بالحراك المدني نفسه.
من ناحيتها ومع انقسام السنّة بين ممانعين مقرّبين من «حزب الله» ومستقلين ومعارضين له، حافظت الجماعة على وجودها النيابي المقتصر على نائب واحد على رغم مشاركتها بقوة في حراك 17 تشرين حتى أن بعض إجتماعات «الثورة» عقد في مراكزها فاتهمت بتسلق الحراك، من دون أن تتمكن من استثمار ذلك بجديّة.
نقاش في الحركة.. ومخاوف
اليوم بعد انخراط الحركة إلى هذا الحد في عمليات المقاومة في الجنوب، وهي ليست المرة الأولى لكنها الأكثر كثافة، يعترض كثيرون على الساحة السنية لكون الأمر إرتبط بوحدة الساحات غير المُجمع عليها داخليا، والمتهمة عند أخصام «حزب الله» بافتعال المعركة في الجنوب لصالح أجندة إيرانية، ثم بسبب الخشية من تمدد بفعل الأمر الواقع للحركة للتحضير لزمن جديد تكون الجماعة حاضرة فيه لتشكل حلفا سنّيا لـ«حزب الله» الشيعي، وربما نظيرا له.
حسب المتابعين للجماعة كما للواقع على الأرض، فإنها تمددت بالفعل منذ «طوفان الأقصى» وتضخمت «قوات الفجر»، جهازها العسكري، إلى نحو 1200 عنصر غالبيتهم من صغار الأعمار وكانوا مدربين في الأصل وانتقلوا اليوم ليصبحوا مقاتلين بعد تدربهم على يد حركة «حماس»، في أكثر من معسكر في لبنان وإيران كما يردد البعض.
يشير هؤلاء إلى أن الأمين العام للحركة الشيخ محمد طقوش يحتفظ بعلاقة جيدة جدا مع «حزب الله»، وثمة ثقة، بحذر، بين الحزبين وتنسيق أمني وعسكري، ما يغلّب الجو العام المؤيد لعمليات المقاومة في الجماعة التي تشهد نقاشا جديا حول تموضعها والثمن الذي دفعته بسقوط بين 30 و40 شهيدا لها منذ بدئها عملياتها على أثر «طوفان الأقصى»، حتى تحدث البعض في البيئة عن «تهور» للحركة في عملياتها المسلحة مع هذا الرقم الكبير نسبة إلى وجود الجماعة في الجنوب ومحيطه.
هذا النقاش جاء بسبب مخاوف لكون الجماعة، المفتقرة للسند الخارجي الجديّ، قد يأتي يوم وتتعرض لمؤامرة تستهدفها، وإذا كان «حزب الله» محصن بقوته وبمرجعيته الإيرانية، فمن الذي يضمن أن لا يأتي يوم وتُضرب الجماعة وصولا إلى سحب العلم والخبر منها؟
في كل الأحوال وإذا كانت الجماعة بريئة من المظاهر المسلحة التي برزت في تشييع شهدائها، فإنها، سواء قصدت أم لا، وفّرت جوا ملائما لهذا الظهور «العشائري» المسلّح.
وبما أن الحرب غير منظورة النهاية، فإن تمدّد الجماعة مرشح للتعزز وسيكون أولا على حساب شركائهم في «الثورة» من مدنيي السنّة الذين صعد نجمهم مع 17 تشرين قبل أفوله.. كون ثمة رأي رائج أن الجماعة رغم كل شيء هي في صف معارضي المنظومة.
لا مشروع طويل الأمد لدى المستقلين
فبعد عامين على الإنتخابات النيابية يبدو مشهد المدنيين مُحزنا.
يقرُّ بذلك أحد قياديي حراك 17 تشرين مروان الأيوبي لـ«اللواء»، فقد انتهى الحراك الجديّ في العام 2021، وبما أن وجدان «الثورة» كان نضرا فقد بنى المدنيون على هذا الوجدان عندما حضر العامل الإنتخابي، لكن عبر التصويت «ضد السلطة» الذي شكّل العنصر الأهم هنا مع تصويت ما يقارب 25 في المئة من الشعب اللبناني ضد التركيبة الحاكمة.
لذلك فإن الحراك المستقل ضد السلطة اليوم يقتصر على وسائل التواصل الإجتماعي، حيث تحوّل الكثير من المعترضين نحو حالة تفاعلية من دون أن يكون هؤلاء حالة متماسكة ومنظمة ولها إطارها الداخلي والمستمر لبناء الوعي والتحذير من المخاطر والتحضير للمستقبل. فلا تفاعل ولا نقاشات بين هيئات وقوى ومثقفين لخلق دينامية حركية في الشارع تكون منظمة ومؤطرة بالمعنى السياسي وحتى بالمعنى المدني، فكانت الأرضية خصبة للإسلام السياسي لملء الفراغ «وهذا غير صحي».
يعود الأيوبي ومن مثله إلى العام 1982 حين حلّت الهزيمة بعد احتلال العاصمة اللبنانية بيروت ما مهد لصعود هذا الإسلام وسط الهزيمة والإنكسار، «فكان تعبيرا عاطفيا في مجتمعنا المتدين من كل الطوائف ونلجأ إلى الله في لحظة الضعف، واليوم هذا الإسلام السياسي يعود إلى الصعود ربطا بالقضية الفلسطينية وحالما حضرت قضية غزة طفا ما كان كامنا على مستوى الوعي ليتفجر سنياً».
الواقع أنه من الصعب إستشراف ما سيكون عليه المشهد سنياً في المستقبل القريب أقلّه، لكن صعود الإسلام السياسي يقلق المكونات السنية الأخرى، وبما أن الأمر يتعلق بفلسطين والاستشهاد فقد صمت عليه رموز السنّة وعلى رأسهم دار الفتوى.
ثمة من يُطمئن أو يحاول التخفيف من وقع هذه الموجة مشيرا إلى أن الأمر موضعي زمانيا وسينتهي مع إنتهاء الحرب الجنوبية، وقد يكون ذلك صحيحا، لكن إذا أجاد الإسلام السياسي، من جماعة وغيرها، استخدام هذه اللحظة فسيكبر حجمه على حساب من عمل على اللحظة من دون حسابه للمدى الزمني الطويل، حسب الأيوبي الذي يشير إلى أن ذلك يفيد «حزب الله» «كونه لا يأكل من صحنه بما لا يشابه الحالة الحريرية سابقا التي اجتذبت شخصيات شيعية».
على أن الحضور المدني الذي لم يتوحد يوما منذ بدء ظهوره بقوة خلال حراك النفايات العام 2015، لم يقدم مشروعا حقيقيا وسقط جزء منه في ما كان يهاجمه سابقا، أي في الزبائنية السياسية ولم يقدم مشروعا إنتاجيا لصاح الناس، ومن المؤسف أن تراجعه ظهر بوضوح في المرحلة الأخيرة لا سيما مع تعثر التجربة التغييرية لأسباب يتعلق معظمها بواقع لبنان نفسه، فعادت الناس إلى أركان السلطة أو لصالح رجال أعمال يقدمون الخدمات وسط أكبر أزمة اقتصادية في تاريخ البلاد.
إرباك تجاه «وحدة الساحات»
يتوقف الأيوبي عند «حالة إرباك سنية» في موضوع وحدة الساحات.
وبتأكيده على تعاطف السنة مع غزة، يلفت النظر إلى واقع المعترضين على «حزب الله» والمتهمين له بالتخاذل في الوقت الذي يرفضون فيه فتح الجبهة، وهذا ناتج عن إشكاليتين أولاهما أنهم يشعرون بعجزهم عن نصرة غزة، وثانيهما أن لديهم حساسية تجاه الحزب ولا يريدون أن يتورط أكثر بسبب الوضع الاقتصادي في لبنان، كما لعدم إستثمار إيران لأي إنتصار.
في خضم كل ذلك ثمة ما هو مؤسف على صعيد النقاش حول الحرب في الجنوب، فكون الشهداء والخسارة الاقتصادية تنتج في وجه إسرائيل، يذهب كل نقاش نحو التخوين، في موازاة تجريم البعض في المقابل فعل السلاح من دون ذكر لفعل العدوان.
أما على صعيد القوى المدنية فبات عليها التجديد في الخطاب والوسائل والعمل طويل الأمد على مسألة الوعي، وعدم ربط أي تحرك بالتمويل وإلا فلا معنى للنضال من أساسه. ومع كل تطور تصاعدي في الموقف ضد العدو سيكون الجسم المدني الأكثر هشاشة ضد الإختراقات لافتقاده للتنظيم والمأسسة، رغم احتفاظه بموقف معادي لإسرائيل.