ثمّة ما غيّرته السنون وأعوام السجن في سمير جعجع: أن يدفع الآخرين إلى الاقتتال بدل أن يقتلهم بنفسه كما اعتاد. المُدان بقتل رشيد كرامي رفع لسنوات قميص رفيق الحريري مطالباً بالثأر؛ جهر بـ«البيعة» لـ«الإخوان المسلمين»؛ وحالف «جبهة النصرة»… والهدف واحد: الفتنة السنية – الشيعية. من سوء حظه أن سعد الحريري نفسه تفادى في كل مرة الوقوع في هذا المنزلق الخطر… إلى أن ضاق الحكيم ذرعاً. مما علّمته إياه السنون وأعوام السجن أيضاً أن هناك طريقة أخرى غير القتل لإزاحة من يقفون في وجه طموحاته: الوشاية والغدر. هكذا تكفّل التحريض القواتي بإزاحة سعد الحريري عام 2017 سعياً إلى «وراثة السنّة» بمباركة من «وليّ الأمر» في الرياض.
غير أن رياح السنّة سارت بما لم تشته سفنه. فـ «الحارة ضيقة والجميع يعرف بعضُهم بعضاً»، والرسائل التحريضية القواتية على الحريري، من بيروت إلى الرياض، لم تعُد سراً، فقد «بقّها» سعد مراراً أمام مقرّبين منه. وربما لا يُجمع السنّة على أمر كمثل إجماعهم على مسؤولية جعجع عما آلت إليه أحوال الطائفة بفعل تحريضه على الحريري لرفض الأخير الصدام مع حزب الله وفتح محرقة سنية – شيعية. هكذا خابت آماله حتى لم يعد يجد من يحيط نفسه بهم في مؤتمرات معراب سوى ثلاثة من نواب الصدفة، فيما ترفض غالبية السنّة التسليم له ولو بصورة!
حلّ «طوفان الأقصى» كأسوأ كوابيس جعجع. أنست فلسطين السنّة والشيعة خلافاتهم ووحّدتهم خلف حرب الإسناد. علّقت طريق الجديدة صور «أبو عبيدة» بدل صور محمد بن سلمان، وشيّعت صالح العاروري، ورفعت أعلام «قوات الفجر» المقاومة.
لكنّ «الحكيم» لا يكلّ ولا يملّ. وإذ ما انتفت أسباب الفتنة وجبَ اختراعها. هكذا، استؤنِف الجهد القواتي من منصات التواصل الاجتماعي وصولاً إلى «المعارضة» السورية: أنشأ «الجيش الإلكتروني القواتي» صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي بـ«أسماء مسلمة» ترفع «بروفيلاتها» صور الرئيس الراحل رفيق الحريري والرئيس سعد الحريري، وتذكّر بخلافات حزب الله وتيار المستقبل، وتركّز على أن حزب الله قتل الحريري الأب. واستعان «جيش القوات» بناشطين سُنّة منبوذين من بيئتهم يروّجون لـ «طوفان الأقصى» باعتباره «خدمة للمشروع الإيراني في المنطقة على حساب الدم الفلسطيني». أما ما تبقّى من مسائل خلافية، كسوريا وغيرها، فتتولاها حسابات قواتية معروفة. وفوقَ ذلك، تحاول القوات عبر مكتب تنسيقي في كورنيش المزرعة البقاء على تماس يومي مع الشباب السنّي لتحريضه ضد البيئات الأخرى، وتُدفع أموال لبعض مفاتيح المناطق لتأجيج الشارع، والتحريض حتى على مشايخ سنّة تابعين لدار الفتوى ممن يجهرون بتأييدهم للمقاومة ويدعون إلى ترك الخلافات الداخلية جانباً، واتهامهم بأنهم «يعملون في خدمة إيران».
جهد قواتي على مواقع التواصل لاستعادة خلافات حزب الله وتيار المستقبل
وتحاول «القوات» جاهدة الاستثمار في ملف النازحين من مناطق الجنوب والبقاع والضاحية، وخلق أجواء معادية لهم في بيروت وطرابلس بالتنسيق مع النائبين أشرف ريفي وفؤاد مخزومي، عبر الدعوة إلى طردهم بذريعة أن وجودهم يعرّض المناطق التي تستقبلهم للخطر.
أما الدور الأكبر، فيتعدى الحدود اللبنانية، ويتولاه المسؤول القواتي (ر.ج.) حيث تُعقد اجتماعات مع المعارضة السورية في عدد من العواصم، من بينها إسطنبول وبرلين، عنوانها «انتهاء مرحلة حزب الله والاستعداد لأخذ الثأر منه ومن بيئته»، والضغط لمنع عودة النازحين السوريين لأن المطلوب بقاؤهم ووضعهم وجهاً لوجه مع الشيعة، بينما تتكفل القوات في خلق الجو الذي يدفع إلى ذلك عبر شدّ العصب المذهبي وإعادة تفعيل الخطاب التقليدي المعروف منذ عام ٢٠٠٥.
لا يتوقف سمير جعجع عن محاولة ضرب الشيعة بالسنّة من دون أن يورّط شارعه. لكنه، حتى الآن، لم ينل المباركة السعودية المطلوبة. ولم تجب الرياض بعد على طلب النائب ملحم رياشي زيارة المملكة ولقاء المستشار في الديوان الملكي نزار العلولا لانشغال المملكة في أمور أخرى!
ما يتمناه سمير جعجع هو أن تنتهي هذه الحرب ليس بتقليم أظْفَار حزب الله، بل القضاء عليه نهائياً ليتسنّى له إعادة إنتاج دوره السياسي والأمني وربما العسكري. مشكلته الوحيدة، والأساسية، حتى الآن، أنه لم يجد بعد يداً تصفّق معه. رغم ذلك، لا يتوقف الحكيم عن المحاولة.